يحمل تاريخ 17 ديسمبر للتونسيين ذكرى عزيزة على قلوبهم، وبصفة أخص لكل الشباب الذين شاركوا بالثورة التونسية التي ابتدأت أحداثها في مثل هذا اليوم بإحراق "محمد البوعزيزي" لنفسه انتصارا لكرامته المهدورة، فإذا به يلهب شرارة ثورة أتت على عروش أنظمة الاستبداد في المنطقة، وساهمت في كسر حاجز الخوف والرهبة منها، وأطلق عُقال الكثيرين عن قول الحق في وقته وموضوعه متى استدعى ذلك وجوب التحرّك.
أما 17 ديسمبر لهذه السنة فيحمل نكهة أخرى تحمل ريح فلسطين واسمها وفخرها بطريقة مختلفة، فبالرغم من مرور ستة سنوات على تاريخ تلك الشرارة، وتساؤل الكثيرين عن خبوّها، وعن التشاؤم الذي أصبح مسيطرا على الأوضاع السياسية والاقليمية، إلا أن تونسيّا اليوم بدد كل تلك الغيوم، لتظهر من ورائها البوصلة واضحة وجليّة: فلسطين.
يؤكد 17 ديسمبر لهذه السنة أنباء اغتيال أحد المهندسين التونسيين لانتمائه للمقاومة الفلسطينية والمساهمة في صنع طائرات الأبابيل وهي طائرات بدون طيار تقوم بمهام استطلاعية، وكان لها دور لا يُنسى في الانتصار الأخير للمقاومة الفلسطينية على العدو الصهيوني.
حتى احتفالات 17 ديسمبر تأتي على طريقتنا بكل فخر واعتداد بالنفس مغايرة حابسة للأنفاس مذكرة برمزية هذا التاريخ وما صنعه في التاريخ المعاصر، اليوم حُقّ للشعب التونسي الفخر بالمهندس الزواري بعدما نعته المقاومة الفلسطينية في بيان مُهيب، يلهب الأحاسيس، أيقض في قلب كل تونسي ذكرى ليست بالبعيدة، ذكرى أيام 17 ديسمبر و 14 جانفي وما بينهما.
هذا الحدث الجلل أيقظ بصدر كل تونسي، ذلك الحلم الشاهق العلو، الذي كَبُرنا عليه أطفالا نرى فيه أطفالا من أمثالنا من وراء الشاشات يحملون أحجارا يتحدّون بها محتلّين غاصبين بشجاعة أسطورية تمنينا لو نحوز مثلها، أو لو أن الأقدار تمنحنا شرف استعراض شجاعة مماثلة لها.
وفعلا استجابت لنا الأقدار بعد طول انتظار في ثورة أقضّت مضاجع الظلاّم في مشارق الأرض ومغاربها ولا تزال واستعرضنا شجاعة لا تقلّ عنها في مكان وتوقيت مغايرين، ولكن شجاعة أخرى تدعو لشرف وفخر آخرين مختلفين ظلّت خفيّة لم نعلمها إلا اليوم بعد نعيِه من قبل كتائب المقاومة الفلسطينية.
حينما قرأت بيان كتائب الشهيد عز الدين القسّام الذي انتظرناه منذ اغتيال الشهيد البطل المهندس التونسي، تأكدت فعلا أن طريق فلسطين حتما يمر عبر تونس بطريقة أو بأخرى، فقد حملت الثورة التونسية شعارات مطالبة بالحرية والكرامة الوطنية، إضافة إلى وجوب محاسبة السرّاق (السارقين)، كما حملت الأكتاف شهداءً طالما ظننا أن أمثالهم لا يحملهم إلا فلسطينيون بفلسطين، وشاءت الأقدار أن تكون تونس أرضا لشهداء حريّة من نوع آخر كذلك.
كانت هديتنا للسابع عشر من ديسمبر هذه السنة أن نعلم أنّ بفلسطين أيادي تونسية تزيل عن كواهلنا حرج القعود عن المناصرة، هو حقيقةً ليس قعودا، ففلسطين لطالما كانت البوصلة ولطالما كنّا كتونسيين الزناد، ولم نَرَ فرقا بين تونس وفلسطين، فالاغتيالات كانت بأرضنا منذ زمن، ففي تونس بيننا وبينهم ألف دمٍ ودم، زاده دم الشهيد الزواري قطرةً في بحر واختلط الدم التونسي بالفلسطيني في عديد المناسبات، ولكن رمزية هذا التاريخ وتزامنه مع هذا التاريخ الثوري صنعا الفرق بامتياز.
اليوم أتساءل ككل تونسيّ ماذا كان يدور بجعبة الشهيد المهندس التونسي وهو يرى تجليّ أفكاره في حرب المقاومة سنة 2014؟ كيف كان إحساسه وهو يسمع العالم أجمع منبهرا بقدرة القسّام على تطوير أسلحتها وارسال طائرات الأبابيل إلى عمق الكيان الصهيوني وعودتها سالمة غانمة المعلومات بدون أن يمسسها أي أذى؟ كيف كان يعلم أن كلّ ذلك كان تحت إشرافه وبمساعدته وأنه لن يعلم ذلك غيره وشركائه في النصر؟
كيف يسكت أحدهم عن نصر ذاتي عظيم مثل هذا النصر؟ كيف لا يصرخ بكل ما لصوته من قوة أن هذا النصر لي، وأن هذا الفخر لي، وهذه طائرات الأبابيل أنا المهندس التونسي القادم من أقاصي الدنيا من أشرف على فكرتها وصنعها لتكون فخرا لكل فلسطيني ولكل من يحمل هذه القضية بين جنبيه؟
وأضيف في التساؤل: هل تراه ابتسم ابتسامة المُنتصِر دون أن يلحظ ذلك أحد وهو بأحد المقاهي التونسية؟ هل سمع إشادات كل العالم بما كان له وهَمَّ أن يقول أن بتلك الطائرة بصمةً لي لا أكاد أخطئها ولكنّي استودعتها الله سرّا عسى أن ألقاه بها يوما؟
هل تُراه طلب من الله الشهادة يوما، ثم خجِل منه –كما أفعل- فلِمَ يمنح الله درجة الشهادة وهو لا يأتي ما يستحق ذلك من أجله؟ هل تُراه حلُم برؤية سيّد المنتصرين يوماً ولكنه صَفِنَ متسائلا: لِمَ سيمنحني الله مقامَ أحدٍ يستحق رؤية النبي الكريم؟
الشهيد التونسي أعاد لنا الأمل في أن نحلم بكل ذلك دون خجل، لقد عَمِلَ من أجل أن يستحق ما ناله، وترك لنا فخرا واعتزازا بجنود الخفاء التونسيين ليس لهما مثيل في هذه الأيام الثورية المباركة، وليس لنا بعد ما عَلِمناه منه أي عُذرِ في أن لا نكون على دربه وأن لا نسير على خُطاه في طلب العلم، والتميّز فيه، علّ كثيرين مثل الزواري والسائرين على دربه يكونون جندا قادما، تُحرّر فيها فلسطين بقوة العقل، وقوة العلم، وقوّة القلم، وقوة الإعلام، إضافة إلى قوة السلاح والعتاد.
وسوف يكون لنا ثأر لدماء الزواري وصحبه، فنحن في كل خطوة عِلم نثأر لكم، ونحن في كل طريق نتحسس فيها علماً أو فكرا أو رسما أو قولا نقترب من الثأر الكبير، ليس لنا حجة بعد كل ما سمعناه من أمر الزواري أن نقعد عن الثأر، وليس اغتيال الزواري سوى نداء، نداء يقول بأن حيّ على العِلم، حيّ على الجهاد الأكبر، حيّ لعمل تستحق من أجله أن تلقى محمّدا وصحبه.