كانت الظروف مواتية لتذكر كل ما حصل، لحظة يوم شديد البرودة، والرياح تأخذ منك أنفاسك وتعيد لكَ الغاز المتناثر من قنابل الغاز التي ألقاها الجنود تجاه منازل الأهالي، شيء ما بداخلك يخنقك، شعورك باللامواطنة في وطنك، رغبتك بالاستقلال وأنتَ محتل، بحثك عن الأمان وأنتَ أسير احتلال، رغم أنك اعتدت هذا الحال منذ سنوات عجاف.
يتكرر مشهد الاقتحام الليلي لمنزلي، يقولون زائر المساء لا يتأتي بخير، يوقظك وغد من نومك لأمر تفتيش منزلك، ونادراً ما يسمح لأهل البيت بلملمة أفراد العائلة وايقاظهم حتى لا يصيبهم الفزع من لحظة غير متوقعة. نعم، فكل شيء في أوطاننا غير متوقع، لحظة مداهمة منزلك لا تدركها الا عندما ترى الجنود متمركزين في منتصف منزلك ومنتشرين في الغرف وفوق البنايات القريبة منك، لوهلة تشعر أنك شخصاً تُشكل خطراً على أمنهم، وبأي لحظة سيتم اعتقالك أو قتلك.
ساعة الغفلة التي كنا نسمعها ونحن صغار، كنا نقتصرها على ساعة الموت المفاجئ فقط، ولكن كبرنا وأدركنا أن مداهمة الاحتلال منزلنا في منتصف الليل هي ساعة غفلة أيضاً، أو اعتقال أحد أفراد العائلة شيء يقع ضمن تعريف ساعة الغفلة، وأن تظلّ مستيقظاً حتى الصباح تعيد ترتيب ما عاثه الجنود في بيتك من خراباً مقيتاً هي لحظة غفلة.
وأزيدكم علماً أن لحظة الغفلة باتت تتضمن "مصروفك الشخصي الذي تسأل نفسك كل ليلة اذا ما داهم الاحتلال منزلنا أتراه سيسرقه ويفبرك ألف قصة اعلامية ليبرر سرقته، رغم أنه لا يساوي في عداد أموال ما يصرف على جيش الاحتلال شيئًا يُذكر".
منذ أيام وأنا أستيقظُ على صوت قنابل الصوت التي يُهيأ لك أنها تضرب أذنك تماماً، ورائحة الغاز التي تتسلل الى المنازل من كل حاشية، كتسلل الأمل في نفسك بأن الثائر "المخيمجي" لا ينام الليل وسيهبّ ويقاوم، فلست آمناً وأنتَ في وطنك.
أجل، منذ أربعة أيام يقتحم جيش الاحتلال مخيم الجلزون شمال رام الله، لاجراء تدريبات عسكرية، فيقتحم المنازل ويروع ساكنيها بالتفتيشات التي يقوم بها جنود يسوقون كلاب بوليسية، تفهم بلغة "UP" فتجدها قفزت عالياً ونهشت ملابساً في خزانة مرتفعة، وعندما يقال لها "DOWN" تشعر بأن حالة هستيرية أصابتها وهي تذهب يميناً ويساراً مُحطمة ما هو أمامها، في سبيل ارضاء أهواء"الكلب البشري" الذي يسوقها، جاهدة لتكشف عن رائحة سلاح أو ما شابه، وكل هذا يندرج تحت التدريبات العسكرية وليست المهمات العسكرية الجادة.
أيام متواصلة يقضي فيها أبناء مخيم الجلزون والاف الشبان في مختلف مناطق الضفة بما فيها القدس المحتلة، ساهرين يصدون اقتحامات الجيش، يهتفون بصيحات الاذان الذي يمرر الاحتلال مشروع قانونه لمنعه في القدس، يصابون بالرصاص المطاطي ويستنشقون الغاز السام، وتبكي عيونهم من غاز المسيل للدموع، ومشهد يتوحد في البيوت، هو ترقب الأمهات الخائفات من ساعة الغفلة، بسماع نبأ فقد أحد ابنائهن شهيداً، أو أسير مواجهات سيتمنى لو أنه استشهد على أن يقع أسير قبضة جيش لا يرحم، ولا يعرف مبادئ الانسانية.
انتبه، كفلسطيني لا تشتت مقتنياتك الخاصة، كل ليلة اهتم بها وضعها في مخبأ واحد، حتى اذا ما باغت الجيش منزلك، تبدأ بترديد "وجعلنا من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً فأغشيناهم فهم لا يُبصرون" قربها، وعلى سيرة هذه الآية، حاول ألا تتمتم بها ويظهر عليك أثرها، لأن جيش الاحتلال يعلم أننا نتلوها، فأحد المصادفات كانت عجوز داخل سيارة أجرة تمرّ على أحد حواجز الاحتلال،.
وعندما أوقف ضابط دورية جيش الاحتلال المركبة، بدأت تتمتم بها لأن مجمل الركاب شباب عداها، فطرق الضابط الشباك من الناحية المواجهة لها وقال لها "سداً سداً آه" في اشارة منه بأنها تقرأ الآية لتُعمى أبصارهم ولا يعتقلوا شاباً، أعلم أيها القارئ أنك ستضحك على هذا الموقف كما ضحكت أنا عند سماعه، ولكن احذر، فالاحتلال استطاع أن يُبقي سيطرته علينا لأنه تعلّم وما زال يتعلم مفاهيم مجتمعنا ومكوناتنا، فيما نجهل نحن ميزانية وزارة جيشهم السنوية والتي تبلغ أكثر من 90 مليار دولار، وما بين علمهم بنا وجهلنا بهم احتلال متواصل منذ عشرات السنوات.