شبكة قدس الإخبارية

من العراقيب .. إلى العراقيب

مروان أبو فريح

كركور العراقيب، رجل عاشق ومعجزة درويش، حبليّ السري ووصايا الوطن.. وجه مشرق من الحب دائما، وكأني لا أفهم إلا بمقدار ما أصبحت متحدا مع الأرض التي أحبها..

أخرس صامت، متصوف لا يصوّر، بل يكون الرسالة. خارج الفوضى وتقنينها الرتيب لا يطرح أمور الدنيا، بل يعيش في خضمها.

بقايا ليلة نمت فيها كي أحلم، لا "لأنساها"، لكن كي أرى أن لي معصماً، وساعداً.. أذكر، ليلتها أني بنيت الخيمة التي هدمها الإحتلال ((بيت صديقي"البراكية" المبنية من الخشب وألواح الزنك، وكان ينظر إليّ وأنا أبني بيته من جديد على كومة من حطام البناء))، وشعرت بعد نحيب طويل برغبة في الضحك..

كان عراقيب يجمع صناديق نثرتها حارات نظيفة معترف بها لا مسلوبة اعتراف، حارات فيها المياه بواسطة أنابيب وليس من آبار ودلاء معلقة بالحبال، فيها شبكة كهرباء قطرية وليس مولدات، فيها شارع يؤدي للقرية وليس طريق ترابية ملتوية ووعرة..

دون معصمين وساعدين، صنع مكعب خشبي، ونثر للحمام الحب.. صنع طائرة ورقية، وأشار إلى سطح بيته: "ليتها تطير على سطحي"..

كيف له أن يكسر صمته دون سقف..!؟ وكيف للحمام أن يبتسم لكلتا يديه دون كف..!؟

arakeeb

ضحكة في القلب ومحبة يحل فيها القلب، فحمامته الطليقة دوما ترقب تجاعيد القرية، تارة من القريب وأخرى من خلف الغياب، تحيا برائحة القِدَم المعتقة، تمر بطريق ممغتصبتين يهوديتين، مبتعدة قاب وجعين أو أدنى عن مدينة رهط، القرية تنصت لدهشتها، تفغر فاهها كلّما جالت بها.. وكأنها الأولى.. فتبتسم لتجاعيدها وحكاياها وأزقة الصبر المرتسمة هنا وهناك، تودعها وتودعها ذاكرة للنسيان...

يا عراقيب.. أين ذاك الغياب الذي أَخذوا إليه وطني ووالدي ووجه أمي الحزين وإخوتي الثلاثة.. دلَّني عليه.. دلَّني عليه بربّك.. علّني أغويه وأعيد إليّ الغُـيّـاب.

لم يعد للعشب ماء.. فشفتي أبا عراقيب الجافتين تثبّت اللفافة، ليشعلها وليسحب دم هوائها بنهم.. بعبائته الشهباء ينظر وجه طفله المغبّر بالأسئلة، وإمرأته تضغط على رضيعها، وفتاة مبتلّة بالفيء وبالنوم.

وحده عراقيب حارس الحمام، يدري أن جرافات الإحتلال ستغمس أسنانها في مخدته، فهو يحرس حمامته كي تعود لتلتقط الحب على "السطح" المجاور.. كانت بيضاء والسواد يغطي رأسها، يلوّح لها لا لقوات الإحتلال التي أبقت الأطفال والنساء والشيوخ في العراء رغم حرارة الشمس الحارقة، في شهر رمضان المبارك، وعلى أبواب عيد الفطر. وإخراج أهل قريته من الخيام التي تأويهم، وإدخالهم في أرض المقبرة، التي يحتمون بها عند كل عملية هدم، حتى قامت الجرافات بهدم الخيام وساوتها بالأرض.

كان غريب الطور ذلك الصباح، "أنا مثلك، أحس ألا ذراعا لي".. قلت له..!

سكون، وقت بطيء وإبتسامة صمود " لن نتخلى عن حقنا في أرضنا مهما طال الزمن وقصر فنحن أصحاب حق"..

أنا الطفل الذي أخذوا منه الطائرة، أنا السيد الذي حرموه البوح، أنا الرجل الذي حددوا أطرافه بمسافة من الوهم.. أنا الجمعة الحزينة أتسلّل باكرا لأرى الشمس تصلّي للأرض..

بعيدا عن المقبرة، لا أحد ورائي.. تنطق القرية بيوتها أمامي.. وبيوتها طويلة حد السماء..

"أيّها المارّون بين الكلمات العابرة، انصرفوا وخذوا ما شئتم من صورٍ كي تعرفوا.. أنكم، لن تعرفوا ،كيف يبني حجرٌ من أرضنا، سقفَ السّماء.." (درويش)

أنا أعرف كيف أستردها.. يزفر كالأسد الجائع: يوما ما سأفقه الطريق إلى حروف هذه الرواية.