فلسطين المحتلة - قدس الإخبارية: جلس الشعب الفلسطيني بتاريخ 15/11/2002 أمام وسائل الإعلام للاستمتاع بحيثيات المعركة التي دارت رحاها بين ثلاثة من المجاهدين المسلحين بكل أنواع الحياة والسلام، وبين الجنود المدججين بكل أنواع القتل والإرهاب، لتكون النتيجة انتصار الدم على السيف والكف على المخرز في مدينة الخليل.
وحفرت عملية "وادي النصارى" الشهيرة في ذاكرة سكان حيه قرب مستوطنة "كريات أربعة" وفي ذاكرة جمهور المقاومة، أسمى آيات العز والفخار، والتي كانت ضرورة حتمية بعد إيغال الاحتلال بقتل وتدمير كل ما هو فلسطيني، إبان الانتفاضة الثانية، ليبقى صوت أزيز رصاص المقاومة يلاحق كل من اقترب من حدود الوطن.
وتعيش مدينة الخليل القديمة وضعاً مأساوياً مريراً بفعل وجود أشرس المستوطنين وأكثرهم عنصرية وتطرفاً وتعصباً وحقداً وكرهاً للعرب في أراضيها، حيث هجرها أكثر من 68% من سكانها نتيجة سياسة الإغلاق والمضايقات والمجازر التي يرتكبها جيش الاحتلال ومستوطنيه بحقهم، وخسرت (51%) من أراضيها منذ بداية الاحتلال عام 1967.
معقل المستوطنين
وفي عمق معقل الاستيطان، وفوق قلعة أمنية وعسكرية تنتشر فيها قوات الاحتلال بكثافة، لحماية التجمعات الاستيطانية في الخليل، أخذ الرفاق الثلاثة قبل شهرين من تنفيذ عمليتهم الشهيرة بعمل جولات استطلاع ميدانية لرصاصهم المنتقم من 400 مستوطن وآلاف الجنود الذين يذيقون الخليل القديمة وأهلها شتى أصناف العذاب.
دخل المقاومون الثلاثة بين جموع المستوطنين، على الطريق الممتد بين بوابة مستوطنة "كريات أربعة" والطريق الذي يطلق عليه المستوطون "شارع المصلين"، من أجل رصد أدق لمواقع الحراسة وعددها وطبيعتها ومدى فاعليتها ونقاط ضعفها والأماكن المشرفة عليها، والتعرف على طريقة حراسة المستوطنين وحركة السيارات العسكرية.
نادت أرواح شهداء مجزرة المسجد الإبراهيمي في الناس أن يأتوا من كل فج عميق، فأخذ ليل الخليل الهادئ يضيء، واقتربت حاراته وبيوته العتيقة من مآذن المسجد، وبدأ الاستشهاديون بعزف ألحان الانتقام من كل من غدر بأرواح الركع السجود، حين تسلل الإرهابي "باروخ غولدشتاين" وأعدم المصلين الفلسطينيين الخاشعين في صلاة الفجر.
رواية خاصة
يقول الحاج أبو يوسف الجعبري (64 عاماً) من واد النصارى لـ"قدس الإخبارية": "كان الجيش يحرس المستوطنين العائدين من الصلاة، الساعة تمام 7 مساء، سمعت صوت إطلاق نار، نظرت من نافذة منزلي، وصل 3 جنود من حرس الحدود بسيارتهم لمكان إطلاق النار، فتحول إطلاق نار عليهم، وهربوا وتركوا الجنود المصابين مكانهم بالموقع".
ويتابع الحاج أبو يوسف شهادته على المعركة، "جاءت سيارة عسكرية فيها جنديين، قتلوهم الشباب، علمت لاحقاً أن القتيل قائد كبير بجيش الاحتلال وسائقه، كل جندي كان يتقدم نحو الواد لم يعد، جن جنون الجنود، اعتقدت بوجود عدد كبير من المسلحين، شاهدت أفلام مع أبنائي على التلفزيون لكن كتلك العملية لم أشاهد".
ويضيف أبو يوسف، "بعد ربع ساعة تقريباً توقف صوت إطلاق النار، حضر جنود إلى المكان وعاد صوت الرصاص يزغرد بالحارة، لم يكن يعلم الجيش من أين يأتي إطلاق الرصاص، شاهدت الجنود وهم هاربون وكيف وقعوا فوق بعض، ويصرخون عبر أجهزة الاتصال طلباً للمساعدة والإمدادات".
نهاية العملية
الساعة 11 مساء انتهت عملية مصيدة الجنرالات وقنص الجنود، كانت المنطقة قد تحولت إلى ساحة حرب حقيقية في ظل تواصل توافد التعزيزات العسكرية لجيش الاحتلال، وتحولهم لحقل رماية وتدريب للمجاهدين، ودب الرعب والذعر بصفوف الجنود، فقتلوهم بأسلحتهم التي استولوا عليها من الجنود القتلى في المعركة.
قتل أحد ضباط الصف الأول في جيش الاحتلال، حين حاول أن يطل برأسه من نافذة سيارته، بينما كان المجاهدون الباقون يتحصنون في السيارة المدرعة التابعة لحرس الحدود التي سبق وأن قتلا جنودها، فاستعصوا بذلك على قوات الاحتلال التي أظهرت جبناً واضحاً كما صرح مستوطنون كانوا في منطقة المعركة لاحقا.
ساعات قاسية وطويلة مرت على جيش الاحتلال وقادته، اضاؤوا السماء بالقنابل المضيئة، ولم تعد تتسع سماء الخليل لمزيد من الطائرات الحربية العسكرية، سلم المجاهدون الثلاثة راية المقاومة لآخرون وارتقوا للعلياء شهداء، وبعدها قررت قيادة جيش الاحتلال التوقف عن حربها على كل شيء في واد النصارى.
عائلات المنفذين
الحاجة أم زياد قدمت اثنين من أبنائها شهداء، أحدهم أحد أقمار عملية واد النصارى الاستشهادية ولاء, ولحق به شقيقه أحمد (21 عاماً) بعد 19 يوماً خلال اشتباك مسلح مع جنود في جبال بلدة تفوح إلى الشرق من مدينة الخليل، بعد مطاردة استمرت 7 شهور, واستشهد معه ابن خالته سامي شاور.
تقول لمراسلنا "افتقد أبنائي طوال الوقت، لكنني فخورة بما فعلوه، لأنه لا يجدي مع الاحتلال سوى المقاومة، تابعت عملية واد النصارى مثل أي فلسطيني، والحمد لله أن ولاء أحد أبطالها، وكان ملتزم بالدين والدعوة والصلاة بالمسجد، وكان دوما يجمع الأشبال ويربيهم على موائد القرآن الكريم".
وأوصت لجان التحقيق الاحتلالية التي شكلت عقب العملية التي أسفرت عن مقتل 14 جندياً وإصابة 18 آخرين، بتسريح 3 من الضباط لمسؤوليتهم عن إحداث فراغ قيادي، واعترفت قيادة جيش الاحتلال أن العملية مفاجأة ساحقه للجيش وأجهزته الأمنية، خاصة وأنها وقعت في منطقة تعتبر من أشد المناطق حراسة واحتياطات أمنية.
شهادات الناس
والدة الشهيد ذياب قالت لمراسلنا: "في آخر لحظاتي معه قبل استشهاده ترك البيت يوم الثلاثاء بعد الإفطار مباشرة, وقال لي إنه ذاهب ليعتكف فليس عنده دوام جامعي, لقد كان مجتهداً خلوقاً لطيفاً مؤمناً بربه, كانت علاماته عالية بتقدير ممتاز، ونال الشهادة الربانية والحمد لله".
من جانبه قال أبو أكرم لمراسلنا: "لقد تفاجأت باستشهاد ابني في العملية المعجزة في الخليل، حيث لم تكن تظهر عليه أية ملامح تشير إلى أنه يعمل مع المقاومة، إلا أنني والحمد لله فخور بما قدمه ابني، وأرجو من الله أن يمكن المجاهدين من دحر الاحتلال عن كامل أرضنا الفلسطينية".
ويروي الشاب صالح جابر (32 عاماً) من الخليل ل "قدس الإخبارية": "والدي يتكلم اللغة العبرية بطلاقة، كان يترجم لنا لغة الجنود ويقول لنا أسماء القتلى وعددهم، أصاب الجنود الجنون لأنهم لم يتمكنوا من تحديد مواقع المجاهدين ومعرفة عددهم، كانت عملية عظيمة ومحكمة لا زلت أتخيل أصوات الرصاص وصراخ الجنود لليوم".
كما ويعلق الشاب رياض سامي (38 عاماً) من بلدة سعير على العملية بالقول: "كنت اسمع أصوات رصاص العملية من بلدتي، فتحت المذياع وتابعت بشوق ولهفة أنباء العملية البطولية التي هزت كنيست شارون وجنوده واستيطانه المحصن بكل فرح وسرور، وآثار الحزن والانكسار تهيمن على الكيان الذي سيزول بسواعد المقاومة".
ويضيف "سيبقى اسم واد النصارى ملحمة فلسطينية كبرى، بعد انتهاء العملية نثرنا الحلوى في الشارع، وصفقنا فرحاً وفخراً بإرادة الفلسطيني التي لا تقهر وهو يكسر خوذة جنود الاحتلال رغم بساطة وشح الإمكانيات، وأطلقنا الألعاب النارية في سماء البلدة احتفالاً بالنصر المؤزر على تحصينات الاحتلال".
من الجدير ذكره أن ثلاثة من استشهاديي سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، وهم المهندسين المجاهدين الشهداء، أكرم عبد المحسن الهنيني (20 عاماً) وولاء هاشم داود سرور (21 عاماً) وذياب عبد المعطي المحتسب (22 عاماً) قد نفذوا كميناً محكماً في عملية نوعية أطلقت عليها قوات الاحتلال اسم عملية "زقاق الموت".
وفي العام اللاحق اغتالت قوات الاحتلال الإسرائيلي بتاريخ 14/8/2003 القائد في سرايا القدس محمد سدر باعتباره العقل المدبر للعملية ومسؤولا عن العديد من العمليات الاستشهادية الأخرى، واعتقلت القيادي في سرايا القدس نور جابر وأصدرت بحقه حكماً 17 مؤبدا بتهمة مساعدة أفراد مجموعة واد النصارى وتقديم المساعدة لهم.
سيظل صدى عملية واد النصارى يتردد من جيل لآخر، وسيبقى العاشر من رمضان 1423هـ، موعد مجابهة مع أكثر العسكريين تدريباً وتسليحاً في جيشٍ وصفه المتخاذلون بـِ "الجيش الذي لا يقهر"، ومقاومو الشعب الجبار يمضون بسكاكينهم البيضاء وسياراتهم المضادة للخوف والموت نحو تحرير فلسطين من بحرها لنهرها.