في انتفاضة الحجارة في عام 1987 وعيت على ياسر عرفات "أبو عمار"، لحظتها كنت أهتف في المسيرات الصغيرة التي نشكلها كأطفال محاكاة للمسيرات الشعبية، وكنت أيامها في الصف الرابع الابتدائي حينما هتفت بالروح بالدم نفديك يا أبو عمار.
وفي ليلة من ليالي الانتفاضة الأولى وجدت صورة أياسر عرفات وضعت على باب بيتنا، حيث توزع من الملثمين التابعين لفتح والمنظمة إعلانا لتحدي الاحتلال.
في تلك الأثناء كانت أشرطة الفيديو والكاسيت الوطنية تمتلئ بالأغاني والأهازيج المحتفية ببعرفات وبطولاته وكلماته..، وكان هذا نوع من أنواع العمل الوطني، وما زلت أذكر شعار كتب على مدرستنا الابتدائية: أبو عمار قالها.. ثورة واحنا رجالها.
هكذا، اختزلت الحكاية في شخص، والثورة في قامة، والقضية في عنوان، فكان أبو عمار حاضراً منفرداً دون أي منافس؛ فهذا ما شكّل في وعينا الجمعي الأول ما يضع هذا الرجل بمكانة فريدة لم يصلها أحد من رموز ثورتنا..
مع كل هذا الحضور والسطوة إلا أنني وجدت من يبغضه ويحاربه، يشكك به أو يسخر منه، بل وقد يصل الأمر بالبعض فيخونه؛ فاحترت من هذه التركيبة العجيبة.. ما بين تقديسه في النفوس ورفعه مكانا في القلوب كبطل فذ قلّ مثيله في حالتنا الوطنية الفلسطينية، وما بين من يقتله كرهاً وحقدًا ويحمله مسؤولية مآسي الفلسطينيين جميعاً بيقين جامح من أنّه أبو الهزائم والكوارث..
لا ضير، فإنّ ما اكتشفته متأخراً أن هذه هي طبيعة الشخصيات الاستثنائية الحاضرة.
فأبو عمار خليط من التناقضات المجنونة لا تكاد تجتمع في شخصية واحدة، فهو محبوب ومكروه، ثائر ومستسلم، مقدام ومتراجع، مقاتل ومهادن، ثورجي وفوضوي، حنون وقاسي، شجاع وجبان، سلمي وحربي، واضح وغامض، أصولي وبرغماتي..
نعم، هو كذلك وغير ذلك فهو باختصار.. كريزماتي بامتياز، يسيطر على أوراق القوة بحرفية، ويتنقل بمهارة بين الأشواك ويتمتع بحس أمني وإعلامي وعسكري ووطني، صلب ومتغير وفق معادلات مدروسة صعبة ومعقدة وحده كان يصنعها ويتعامل معها.
عرفات عبقري أعاد بناء منظمة التحرير وحاول جاهداً أن ينزعها من الهيمنة العربية وفي الوقت نفسه حافظ وصالها العربي، فهو صديق الملوك وعدوهم في الوقت نفسه، راوغ بمهارة في المكان الضيق والصعب، وفي الوقت المستحيل الضائع، فنجح وأخفق، انتصر وانهزم تقدم، وتراجع أنجز وأخفق، فأثار المزيد من الجدل حوله، وأعاد تركيبة العداوة والصداقة من جهة ثانية.
هيمنة ياسر عرفات احتكارية ففي عهده سميت الأسماء باسمه، فكانت منظمة عرفات، وفتح أبو عمار، وسلطة الختيار، فهو المتفرد دوماً مع شكل تجميلي لقراراته ومؤسساته، يتدخل بأدق التفاصيل، ويقرر بصورة مباشرة، لا ينام إلا قليلاً، يحتوي الجميع ليظلهم ويرعاهم، ويتحركون تحت سمعه وبصره.
كان لتجربة عرفات أن تنجح في السلطة والانتقال للدولة في مشروع تحرري واسع لو تعامل مع حماس بشكل مختلف عن تعامله مع الآخرين، فلو استخدم مبدأ الشراكة لا الاحتواء مثلاً لاختلفت المعادلات وكان لحماس اختصار الكثير من الوقت، ولتعاملت مع ياسر عرفات بنظرة مختلفة وعلى فرض أنه قائد وطني كبير لا منهزم متنازل ومستسلم.
وأظن أن عرفات وحماس وصلوا لهذه النتائج والأفكار ولكن في وقت متأخر، أو أن الأطراف الدولية لعبت ومازالت تلعب على المتناقضات؛ لهذا بعيد حصار عرفات وعزله وتنكب أصدقاؤه، كان خالد مشعل الأقرب له وعلى اتصال دائم به، كما قيل أنه لم يخفي سعادته بنضالات حماس ولا سيما في الكثير من عملياتها النوعية.
وبعد عقد من الزمان على استشهاد ياسر عرفات، مازالت القضية الفلسطينية تنسج وتدار بأسس ومعادلات صاغها عرفات بمهارة واقتدار، فكان استراتيجياً عميق الرؤية، وتكتيكياً تفصيلياً حاسماً، إلا أن حلمه لم يكتمل حتى اللحظة برفع العلم الفلسطيني على أسوار ومآذن وكنائس القدس..