بعد مرور أكثر من ثمانية وستون عاماً على احتلالها للأراضي الفلسطينية، لم تستطع "إسرائيل" فحسب أن تبلُغ حلم الشرعية، بل هي إلى الآن لا تمتلك نظرية أمن قومي واضح، ويبدو أن لذلك العديد من المبررات، والتي ليس أقلها تغير الظروف الأمنية، وتغير طبيعة "الأعداء"، في ظل أن الدولة العبرية، تكاد تكون الوحيدة في عالمنا المعاصر، والتي تناقش بشكل مستمر، الحفاظ على بقائها، تعبير بات مستساغا ليس في أروقة الحكم فحسب، بل يتداوله كتاب ونقاد، وكذلك شريحة لا بأس بها من الجمهور، بواقع 42% يخشون انهيار دولتهم في أي لحظة.
ما بين المعطيات الأمنية المتشابكة، وفي ظل عدم قدرة "إسرائيل" وعجزها عن تحقيق نصر واضح خلال العقد الأخير، في حربها ضد لبنان وحروبها الثلاث على غزة، بدأت "إسرائيل" تمر بمراحل تخبط أمني ساهم في فقدانها أمرين هامين، الأول قدرتها على الردع، والأمر الآخر، نزول هيبة الجيش والمؤسسة العسكرية إلى حدود مست بقدسية تلك البقرة، وليوَجهَ لها وللمستوى السياسي تساؤلات واضحة، حول الاستراتيجية التي تتبناها تلك المؤسسة.
سلوك "إسرائيل" في الفترة الأخيرة، في ظل فقدانها استراتيجية واضحة، يٌشير إلى سلوكها ضمن استراتيجية اللقطة (استغلال أفضل الفرص)، واللقيطة (من لا أصل لها، أو أصلها غير شرعي)، وهذه الاستراتيجية بالطبع لن تحسم أيّا من الملفات الأمنية، ولكن من شأنها على المستوى التكتيكي أن تُسهم في تثبيت وضع عام لصالح الدولة العبرية.
بالعودة إلى البند الأول من الاستراتيجية المتبعة "اللقطة"، فقد عملت "إسرائيل" خلال السنوات الأخيرة على تصيد أهداف جيدة للمقاومة، ومباغتتها في غير فرصة، أمر جيد من الناحية التكتيكية، لكنه لا يجني الثمار الأمنية من الناحية الاستراتيجية، علاوة على امكانية قيادته الدولة العبرية لحروب ليست في الحسبان، كما كان الحال مع حرب صيف 2014 على غزة، والتي بات مصطلح جُررنا للحرب متداولاً على المستوى الحزبي والشعبي.
أما استراتيجية "اللقيطة"، والتي تعتمد فيها "إسرائيل" على لقائط الإقليم من الأنظمة من أجل تثبيت أمنها، فباتت كما هو واضح، تعتمد بشكل كبير على الانظمة المحيطة، والتي تفتقد إلى الشرعية من أجل لعب دور بارز في توفير الأمن لها، وقد عبر وزير الجيش الحالي افيجدور ليبرمان في غير مرة، بأن أصدقاءنا في الاقليم، يقومون بتقديم عطايا أمنية كبيرة تُساهم في تثبيت أمنا، ولا يخفى على أحد أن مصر باتت تلعب دوراً أكثر فعالية ضد المقاومة في غزة، من ذلك الذي تقوم به "إسرائيل"، ففي الوقت الذي تقوم "إسرائيل" بتشديد الخناق على غزة، لصل إلى حد اللا موت واللا حياة، فإن الحكم اللقيط في مصر، يُشدد إلى حد ما بعد الموت.
واستطاعت "إسرائيل" اللعب على هذا الوتر بشكل جيد، فهذه الأنظمة ولعلمها بتأرجح كرسيها وعدم ثباته، رأت في الدولة العبرية طوق نجاة لها، ومدخل هام في العلاقات الدولية، وتحديداً مع الولايات المتحدة، فالمعجزة السماوية " مجيء السيسي للحكم"، كما تصفه "إسرائيل"، بات خير لقيطة لأمن يفتقد إلى استراتيجية واضحة، فبفضله أُغلقت الانفاق بشكل شبه كامل، وأصبح فتح معبر رفح لأيام، هدية قومية استراتيجية من الشقيقة الكبرى.
يُذكرني ما يقوم به نظام السيسي، "اللقيط الأكبر"، - ليس على مستوى الحكم فحسب، بل تُدار الشكوك حول نسبه -، بكلام لرئيس هيئة المعابر الاسرائيلية المُحاذية لقطاع غزة، عندما قال نحن نلتزم بما تم الاتفاق عليه من ادخال للشاحنات إلى القطاع، لكن مصر هي من تُشدد الخناق، مُشيراً إلى أن مشكلة القطاع ليست مع "إسرائيل" بل مع اقليمها العربي، وهو ذات الكلام ولكن بطريقة مختلفة، للعديد من الساسة الإسرائيليين وعلى رأسهم رئيس وزراء دولة الاحتلال، عندما قال باتت مصر أكثر تشدداً تجاه غزة منا!!.
حرص "إسرائيل" الكبير على نظام السيسي، جاء لإدراكها صعوبة أن يقوم حكم شرعي في مصر بتقديم هذه العطايا لها، وهذا ما دفع العديد من نقادها ومحلليها إلى الحديث عن خشية سقوط نظام الحكم الحالي في مصر، مطالبين دولتهم بالعمل مع دول اقليمية ودولية من أجل تثبيت اركانه، وتوفير مستلزمات بقائه، فسقوط نظامه، خسارة أمنية إسرائيلية كبرى، فهي لم تُعد تركن إلى استراتيجية السابقين في قيادتها ، ما حك جلدك مثل ظفرك، بل بات نظام السيسي خير حاكٍّ لجلدها.
خلاصة القول، تُقدم بعض دول الاقليم هدايا كبيرة للأمن القومي الإسرائيلي، وباتت "إسرائيل" رغم عدم امتلاكها استراتيجية واضحة، تعيش فترات أمنية زهية، على المستوى التكتيكي القريب، لكن ما يبعث على الأمل، أن اللقطة ليست في صالحها دوما، وربما تقود إلى تصاعد لا تتوقعه ولا تتمناه الدولة العبرية، كما أن اللقيطة وإن طال أمدها، إلى سقوطٍ مدوٍّ، سيُعري في طريقه وهنَ ما تحيياه دولة الاحتلال.