تُذّكرنا أحداث الثلاثاء الماضي، حينما هاجمت عناصر الاجهزة الامنية الفلسطينية مجموعة من المحتجين في رام الله خرجوا للاحتجاج على المشاركة الفلسطينية الرسمية في جنازة شمعون بيرز، بأحداث مشابهة وقعت في تموز عام 2012، المشترك بين الحدثين هو خروج عشرات الشبان والفتيات إلى الشارع للاعتراض على سلوك ونهج قيادي رسمي يتنافى وقيمنا وأخلاقنا، ويتناقض مع أهدافنا وحقوقنا الوطنية التي ضحى من أجلها الآلاف من الأسرى والشهداء.
في يوليو تموز عام 2012، أطلق العشرات من الشبان والفتيات دعوة لمسيرة مناهضة ضد "زيارة المجرم شاؤول موفاز إلى مقر المقاطعة في مدينة رام الله، حيث خرج العشرات إلى الشارع معبرين عن رأيهم ورفضهم لتلك الزيارة، "المدانة والمرفوضة شعبيا أولا"، لكن الأجهزة الأمنية الفلسطينية في حينها لم ترى سوى حلاً واحدًا تمثل في قمع المسيرة التي انطلقت من دوار المنارة باتجاه مقر المقاطعة حيث المكان الطبيعي الذي يعبر عن موقف القيادة الفلسطينية الرسمية.
جرى الاعتداء بالضرب على عدد من الذين شاركوا في تلك المسيرة، فعناصر الأجهزة الأمنية، الذين ارتدى بعضهم زيه الرسمي، زي الشرطة الفلسطينية، وجزء آخر كان يرتدي لباسه المدني، انهالوا بكل ما يملكون من أدوات القمع كالعصي والأسلحة، وبالأيدي والأرجل على ذلك الجمع لتفريقه بالقوة، الأمر الذي تسبب بوقوع العديد من الإصابات في حينها.
ورفضاً لذلك السلوك القمعي تحرك المجتمع الفلسطيني بكل مكوناته من مؤسسات وأحزاب وشخصيات وطنية وحقوقيين وغيرهم لاحترام الحريات العامة وحماية حرية الرأي والتعبير والاختلاف، وصون كرامة الانسان الفلسطيني.
المشهد ذاته تكرر أكثر من مرة، ويتكرر اليوم ولكن بوحشية أكبر، ففي الرابع من تشرين أول الحالي خرج العشرات شبانًا وفتيات، للمشاركة في وقفة أطلقها نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي انتصاراً لدماء الشهداء ورفضًا لسلوك القيادة الذي رفضه الشعب الفلسطيني بكل أطيافه السياسية والاجتماعية، المتمثل في مشاركة وفد رسمي فلسطيني في جنازة شمعون بيرز، الشخصية الصهيونية المعروفة بدورها في بناء الكيان الصهيوني وجرائمهم بحق الفلسطينيين والعرب.
لكن اللافت للنظر هنا، هو "التطور" في السلوك الوحشي للأجهزة الأمنية، واختلافه عما سبقه من وقفات سلمية كانت تُقمع من قبل الأجهزة الأمنية، إذ جرى الاعتداء على المشاركين هذه المرة قبل أن تبدأ الوقفة أساساً، كنوع من العربدة والترهيب والتخريب الاستباقي، وما تضمنته من سلوكيات تحتوي في مضمونها على التهديد والتخويف.
فمنذ الصباح أصدرت حركة فتح بيان رسمي حمل لهجة تهديد واضحة لكل من يخالف سلوك "القيادة"والقول "سنضرب بيد من حديد كل من يمس الحركة" عبارات لم تكن معروفة في تاريخ العلاقات الوطنية الفلسطينية بين فصائل العمل الوطني، تلاها إطلاق دعوة من خلال صفحة حركة فتح الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي، تدعو فيها جميع الفتحاويين للمشاركة في وقفة دعم لشرعية "القيادة" حتى لو شاركت في جنازة الصهيوني شمعون بيرز . كانت دعوة حركة فتح رداً على الوقفة المناهضة و "المغرضة" بحسب تعبيرهم!
هذا ما جرى بالفعل، ففي لحظة وصول المشاركين والمشاركات في وقفة التضامن مع الشهداء التي "تشرفت بأنني كنتُ واحدة منهم" بدأت عناصر الأجهزة الأمنية، بلباسها المدني، التهجم علينا وضربنا محاولين إبعادنا عن مكان التجمع الذي أُعلن عنه في الدعوة، ورافق التهجم أيضًا لغة الوعيد والتهديد والشتم واستخدام لغة سوقية، وحين كان الرد عليهم من جانبنا أنه وبحسب القانون الفلسطيني لا تحتاج الوقفة إلى "ترخيص" أو موافقة مسبقة كوننا لم نتعدى الخمسين مشاركاً، إلا أن أحد عناصر الأجهزة الأمنية أجابنا "اليوم تحديداً ممنوع التجمع لأكثر من 3 أفراد ويلا انصرفوا من هون"!
لم يتوقف المشهد إلى هنا بل تعدى ذلك إلى ملاحقة الشباب وحشرهم في شوارع ضيفة والاعتداء عليهم بالضرب المبرح على كافة أنحاء الجسد وشتمهم بألفاظ نابية، تحديدًا شتم النساء المشاركات كنوع من المساس في أخلاقهن وسلوكهن وعائلاتهن، والأهم ممارسة بعض أفراد الأجهزة الأمنية الذي تعدى الضرب إلى التحرش المقصود والمساس بالفتيات والنساء المشاركات، رافقها أيضاً اقتحام مسيرة حركة فتح مكان الوقفة، كنوع من الاستفزاز، مع العلم أن دعوة حركة فتح كانت قد أُعلن عنها في مكان غير مكان تجمعنا.
اللافت في مسيرة حركة فتح هو أن غالبية المشاركين فيها كانوا من عناصر وضباط وأفراد الأجهزة الأمنية الفلسطينية ولكن بلباسهم المدني، ولم تمر نصف ساعة حتى بدأ المشهد يزداد سوءًا وقمعاً من خلال هجوم عناصر الأجهزة الأمنية بلباسهم المدني على كل من يقف مقابلهم من المشاركين
وصل الأمر للتسابق فيما بينهم في من يضرب أكثر لدرجة أنهم استخدموا رايات حركة فتح ذات اللون الأصفر في الضرب، وللتأكيد أنه لا مجال لأي فلسطيني أن ينتقد سلوك سياسي لرئيس الحركة أو حتى لحركة بكاملها، واستمرت الأحداث قرابة الساعة إلى ساعة ونصف، والمحصلة عدة إصابات جرى نقلها إلى مستشفى رام الله نتيجة الكدمات والجروح.
إن كل ماحدث ومازال يحدث من ممارسات وسلوك لنهج قمعي إقصائي أصبح أقرب إلى سلوك الإحزاب الفاشية يؤكد أننا أصبحنا كفلسطينيين نعيش ما عايشته وتعيشه الشعوب العربية المضطهدة التي تعاني القمع والظلم على يد أنظمة استبدادية لا ترى أي مساحة من مساحات الحرية والتعبير؛ بل وتقمع من يختلف معها في الرأي.
ويظل السؤال المركزي بلا اجابة، ما هي مهمة وأولوية القيادة الفلسطينية؟ قمع الجماهير التي تعيش تحت احتلال صهيوني قمعي وعنصري ويمارس شتى أنواع القتل والتدمير للاإنسان الفلسطيني أم تحرير الإنسان الفلسطيني من نير هذا الاحتلال والمحافظة على وحدة الشعب و الدم ومواجهة مخططات هذا العدو المجرم؟
لا تقتلوا الإنسان الفلسطيني مرتين!