شبكة قدس الإخبارية

مصطفى براذعية.. المُعلم الذي لم تمنعه "الخمسون" من الفدائية

هيئة التحرير

الخليل- قُدس الإخبارية: في صباحٍ مليء بالصمت والهدوء الذي سبقه، أبو مالك يجلس على عتبة المنزل، وأم مالك على وشك الخروج لزيارة شقيقها في المستشفى، "هناء .. مع السلامة"؛ سمعتها منه بنبرة صوت غلب عليها الحزن، لم يقل لها: "تتأخريش..احنا بنقدرش نعيش بلاك" فكان دائما يكرر لها هذه الجملة لكنه لم يقلها هنا لسبب ستوضحه الفقرات القادمة، وانتهى الحوار، وعلى عتبة باب البيت دارت في نفسها أشياء كثيرة خوفا على زوجها. - أبو مالك، اسمع ..لا تزعل حالك لا تضلك شادد على نفسك.

أعادت بذلك فصول الوجع الذي يعيشه البيت منذ ثلاثة أشهر وهو لحظة استشهاد شقيق أبو مالك، إبراهيم براذعية ( 56 عاما)، الذي أعدمه جنود الاحتلال بتهمة محاولة تنفيذ عملية طعن عند مدخل مخيم العروب شمال محافظة الخليل. وبالعودة إلى منزل براذعية، ففي الساعة العاشرة والنصف صباحا، كان أبو مالك يستعد للخروج من المنزل. "وين بدك تروح يا بابا؟".. كان السؤال من ابنته ملاك ذات الستة عشر عاما، هي أحب الأبناء إلى قلب والدها لأنها الأكبر سنا، لكن الحزن ما زال المسيطر على حديث والدها مصطفى براذعية (51 عامًا) في اللحظات الأخيرة له بينهم "خلي أمك تسامحني .. دير بالك أنت وأمك على إخوتك الصغار"، لم تعتد ملاك على هذا الكلام من والدها وشعرت كأن قلبها أوشك على الخروج من جسدها. في يوم الثلاثاء، التاسع عشر من يوليو/ تموز الماضي وعلى مدخل مخيم العروب شمال محافظة الخليل، استشهد مصطفى براذعية وارتقى بعد أن تركت دماؤه تنزف حتى فارق الحياة، رجل في سن الحادية والخمسين عاما انسابت دماؤه الزكية على الطريق، رصاصات متعددة اخترقت جسده الطاهر، واستشهد على إثر الإصابة، بعد أن طعن وأصاب جنديين إسرائيليين.

بداية القصة

وقبل يوم واحد من الاستشهاد، الساعة الثانية عشر؛ "هناء .." ينادي أبو مالك على زوجته (تعالي أحكيلك)، جلست بجانبه بعد أن انتهى من الصلاة وقراءة القرآن، وأخذ يحدثها عن أجر الصابرين وتحمل الابتلاء، "الله يبعدنا عن الابتلاء بكفينا إبراهيم راح".. هذا ما سمعه أبو مالك من زوجته، إلا أنه أصر أن يستمر في حديثه "اسمعي للآخر" واستمر في الحديث عن أجر الصابرين.

الحوار لم ينتهِ بعد، "أنا جعان.. شو بدك تعمليلي"، أخبرته بأنها ستحضر له بعض الطعام المقلي، نظر إليها "خلص.. بدي أصوم". "كيف أنساه؟" بصوت المتألم على رحيل زوجها، تواصل: "في آخر شهر له قام بتجهيز كل شيء لا أستطيع القيام به، وقام بإصلاح الغسالة، والأدوات التي بحاجة لإصلاح، وقام بــــــ"قصارة المنزل" من الخارج، ولم يبقَ أمامه إلا أن يعلمها تعبئة المياه من البئر، "تعالي أعلمك كيف تعبي المية من البئر"..
  • أنا عارفة عنك هيّك موجود..
ثم أراد تهيئتها "وإن متت؟" ضحكت بردها عليه "إن متت .. الله يسهل عليك"، فما قام به أبو مالك من تجهيز أمور البيت، حتى لا تطلب زوجته مساعدة أحد من بعده، بعد استشهاده أعادت زوجته مراجعة تفسير كل شيء قاله لها وأيقنت أن زوجها كان يخبرها بأنه يريد الموت ولكنها لم تدرك ذلك. ومصطفى براذعية درس الكيمياء تخصص ماء في تركيا؛ ولد في التاسع عشر تشرين أول عام 1965م، وهو من سكان بلدة صوريف شمال غرب الخليل انتقل للعيش في مخيم العروب منذ 30 عاما، تزوج وهو في سن الرابعة والثلاثين بزوجته التي كانت تبلغ حينها تسعة عشر عاما، له سبعة أبناء بينهم ذكران وخمس بنات. وهو مدرس كيمياء بإحدى المدارس التابعة لوزارة التربية والتعليم بالضفة الغربية ببلدة بيت فجار شمال الخليل، درس الكيمياء على مدار سبع سنوات لطلاب الثانوية العامة، ثم أصبح يدرسها للمرحلة الإعدادية. لا تنسى أم مالك لحظات مرافقة الحزن لزوجها بعد استشهاد شقيقه إبراهيم: "كان إبراهيم شيخا، يعاني من مرض الصرع، ولكن كان حافظا للقرآن حتى إن أتته حالة المرض كان يقوم ويصلي"، واستشهد إبراهيم وهو لم يتزوج، ومما أحزن مصطفى على شقيقه هو ما أخبر به زوجته "إبراهيم عاش غلبان ومات كذلك". واستشهد إبراهيم براذعية 54 عاما بعد إطلاق النار عليه عند مدخل مخيم، بدعوى محاولة تنفيذ عملية طعن أدت لإصابة جندي إسرائيلي، في الرابع عشر من نيسان/ إبريل 2016م. وحينها علق مصطفى على استشهاد شقيقه في حديث لموقع "أمامة"، "إن العائلة لم تعلم ما جرى على مدخل المخيم، وإن كافة المعلومات لديها فقط من رواية الاحتلال؛ بأن شقيقه كان يحمل فأسا "بلطة" وانهال بها على أحد الجنود قبل أن يطلقوا الرصاص عليه ويرتقي شهيداً، وإن صحت الرواية فهذا فخر لنا".

زار من ضربه

الحزن يخيم على نبرة صوتها، توقفت برهة عن الكلام، ثم استرجعت ذكرياتها مع زوجها، فقالت: "أبو مالك لم يهتم بمتابعة الشأن السياسي كثيرا، يتميز بأخلاقه العالية، حافظ لكتاب الله، يتحمل، صبور كأنه ملاك على الأرض".

مشهد من أيامه الأخيرة، أبو مالك يتناوب بين قراءة القرآن وطلاء جدران المنزل، "خلص لا تدهن اقرأ القرآن".. كان الكلام من زوجته؛ بعد أن شعرت بأن ذلك يشق على زوجها، لكنه استكمل العمل "بتعرفيش الواحد ايش ممكن يصير معه"، فكان منذ استشهاد شقيقه يغلب الموت على حديثه. الحزن ذاته جعل أم مالك تخشى على زوجها الموت بسبب جلطة، ولكنها كانت تستبعد أن يقوم بتنفيذ عملية طعن، تنظر إلى عينيه المليئتين بالحزن والألم، تسأله.."ليش أنت حزين"، ثم تتبع ذلك "لا تعذبنا أكثر.. الله يسامحك إبراهيم راح شهيد". في إحدى الليالي الأخيرة، تحديدا "ليلة اثنين" جلس الزوجان يحتسيان القهوة في منتصف الليل، كرر في حديثه ما يهيئها إليه مؤخرا .."إن مت بتدير بالك على الأولاد " لم تحتسِ فنجان قهوتها وشعرت بأن جسمها يرتعش ليس من برودة الطقس فالجو حار؛ ولكن من الخوف على زوجها الذي أصبح الحزن يلاصقه، ومع ذلك أخذت الأمر حينها بشكل عادي. "بدي أسويلك المطبخ .. بدي تكوني أسعد زوجة بالدنيا" تراجع ما قاله لها، ثم تواصل الحديث عن صفاته: "عندما تزوجني كنت طالبة جامعية أدرس علم النفس، لم أكن أستطيع إدارة أمور البيت كاملا؛ علمني إعداد الطعام والغسل وتنظيف الأواني؛ كان يعتني بأولادنا؛ كان صبورا وحنونا ومتسامحا". ذات مرة، تعدى جارهم على أبو مالك وضربه، لم يرد عليه إلا بجملة واحدة "أنت ليش هيك تتصرف"، وبعد أن عاد إلى البيت قالت له زوجته: "أطلب له الشرطة"، لكنه أجابها: "أنت بتعرفيش إيش أجر صبر الجار على الجار"، وتستمر: "لم يفتعل أبو مالك مشكلة مع جاره، كما أنه لم يطلب الشرطة، ولم يعتدِ على جاره رغم أنه حاصل على الحزام الأسود في لعبة الكاراتيه وهو يستطيع الدفاع عن نفسه؛ ليس من طبعه الشر أو العدوانية، بل ذهب إلى منزل الجار ليتصالح معه". ولدى أبو مالك شقيقة مريضة عقليا، كان قبل استشهاده يتفقدها، وكان يرفض أن تذهب وتعيش خارج البيت، ورغم أنه في إحدى المرات تعرض للضرب من شقيقته بحذائها أمام الطبيب في المستشفى ولكنه لم يتأثر وكانت تضربه ويقول لها " بهمش يا ختي .. بهمش يا حبيبتي .. المهم أنت ما تزعليش "، ولكن عندما عاد إلى البيت دخلت عليه زوجته وهو يجهش بالبكاء على حال شقيقته.

رفض منحها شهادة وفاة

الهدوء يسكن المكان في منتصف إحدى ليالي شهر رمضان المبارك، وأبو مالك على وشك الخلود إلى النوم، إلا أن رجلا جاء يطلب منه أن يذاكر مادة اللغة الإنجليزية لابنه؛ وما كان رد أبو مالك إلا أن لبى طلبه وبقي معه حتى الثالثة والنصف فجرا، وتزيد : "لم يسبق أن احتاج له شخص ورفض طلبه، ومعظم من درّسهم نجحوا، وكان لا يحصل على أجر منهم". تصف إمكانيات زوجها العلمية، ثم تتابع: "امتلك قدرات عقلية متميزة في مواد: الفيزياء والكيمياء والإنجليزي واللغة والعربية؛ كان يتميز بالإبداع وله شهادات تقدير كثيرة". "إيش طلباتكم؟" كان السؤال من وزير التربية والتعليم خلال الزيارة، أجابته حينها: "أريد أن يبقى راتب زوجي عن طريق وزارة التربية والتعليم؛ لا أريد أن يقطع الراتب .. إلى الآن لا نستطيع الحصول على الراتب ونعيش على الصدقات"، وأخبرها بأنهم سيعملون على حل المشكلة. إلى اليوم ومنذ استشهاد مصطفى لا تستطيع الحصول على راتبه لأن البنك يريد ورقة وفاة؛ والطبيب الشرعي لا يستطيع إصدار ورقة وفاة؛ رغم أنه في ثلاجات الاحتلال الإسرائيلي"، بحسرة بادية على صوتها: " لم نسمع بخبر استشهاده إلا عبر الأخبار والرواية الإسرائيلية ولم نتسلم جثمانه بعد ".

الولادة الخامسة

شريط الذكريات أعاد بأم مالك إلى الإبحار في لحظة ولادة المولود الخامس بعد أن كانت قد أنجبت ثلاث بنات وطفلا ذكرا، كانت تمني النفس بأن تلد ولدا، ولكن جاءت المولود بنتا، حينها دخل عليها أبو مالك وهي تبكي " مالك زعلانة ؟ "، أجابته بحزن "عشانك .. بدي ولد"، إلا أنه عبر عن سعادته بالطفلة: "أنت مش أرحم من ربي ولا أكثر رأفة منه .. من لا يوجد في بيته بنات لا يوجد فيه رحمة"، فهذا موقف لا تنساه أم مالك. ويوم أن أنجبت أم مالك ولدها البكر "مالك" حينها جاء زوجها ومن شدة فرحه، فبدلا من أن يطمئن على سلامتها، ذهب واحتضن ابنه من شدة الفرح مباشرة وتركها، وفي آخر جمعة سبقت يوم الاستشهاد اصطحب الشهيد مصطفى أولاده إلى المقبرة لزيارة أمه التي كان يزورها دائما إضافة إلى شقيقه إبراهيم. "يا ابن الحلال الدنيا شوب ليش ماخد الأولاد".. هذا ما وجهته أم مالك لزوجها، الذي بادرها بالرد: "لازم يتعودوا على زيارة المقابر .. بكرا بنموت خليهم يزورونا"، وفي المقبرة وهم جالسون كان أبو مالك قد زرع نبتة صغيرة بجوار قبر شقيقه الشهيد إبراهيم، فنظر إلى ابنه وقال:" شايف ما أحلى الشجرة بسرعة كبرت". وهكذا تنتهي قصة أحد أبطال انتفاضة القدس وهو "مدرس الكيمياء"، من بلدة صوريف ومخيم العروب شمال الخليل، لم يمنعه عمره الذي تخطى الخمسين عامًا، من التضحية لأجل الوطن.

يحيى اليعقوبي- صحيفة فلسطين