فلسطين المحتلة - قدس الإخبارية: عندما كنت تمشي في شوارع بعض المدن الفلسطينية قبل عدّة سنوات، حيث عانت محافظات الضفة انفلاتاً أمنياً تلا تدمير الاحتلال للبنية الأمنية الفلسطينية خلال الانتفاضة الثانية، فإنه طبيعي إذا كنت قد رأيت سائقاً غاضباً يهدّد شرطيّ المرور الفلسطيني الأعزل الذي أوقفه لفحص الرخص والأوراق برشاش كلاشينكوف كان يخفيه في سيارته.
التمرّد ليس شيئاً جديداً علينا كشعبٍ فلسطينيٍ عاصر احتلالاتٍ وأنظمة حكمٍ ظالمةً ومتعاقبة، فلطالما أنهِك آبائنا وأجدادنا بضرائب قائم مقامٍ عثمانيٍ ظالم، أو بقهر ضابطٍ بريطانيٍ غاشم، أو ربما ببطش وابتزاز رجل مخابراتٍ عربيٍ فاسدٍ في الشتات. واستمرّت وتيرة الظلم تعلوا أكثر فأكثر مع الاحتلال الأخير، وكان ضبّاط الإدارة المدنية يتفننون بأبشع استغلالٍ ازدواجيٍ للقوانين في الأراضي المحتلة، فكانت معظم هذه القوانين تقريباً تهدف إلى هزّ كيان الفلسطينيين وإجبارهم على الرحيل؛ ليحل محلهم المستوطنون الجُدد.
مخالفة الفلسطيني لقوانين الاحتلال حتى لو كانت قوانين سَير، كانت تعتبر لذّةً لا تقدّر بثمن؛ وهو بالنسبة للفلسطيني اثبات وجودٍ ومقاومةٍ ورفضٌ لاحتلالٍ يريد سَلب أرضه، بقوانين تمييزية تجري على الفلسطينيين وحدهم.
ويبدو أنه من الصعب علينا كفلسطينيين أن نستغني عن التمرّد، الذي نعتبره ركيزةً أساسيةً في ممارسة صمودنا وإثبات وجودنا، أو حتى موازنة تمرّدنا على الاحتلال بانصياعنا لقوانين السلطة الفلسطينية، التي منذ أن جاءت وهي تجد صعوبةً في إخضاع المواطنين لأنظمتها.
ولا يمكن إخضاع المواطنين بالقوّة بلّ بالإقناع، وهذا صعبٌ جداً على سلطةٍ لا تعترف بها شرائحٌ ليست بقليلةٍ من المواطنين، الذين يراها بعضهم خيانةً وتنازلاً، والبعض الآخر يراها احتكاراً لفئةٍ سياسيةٍ لا تمثله، فيما لا يعترف بها آخرون لأنهم لم يروها مشروعاً ناجحاً، أو ربما لم يروا استفادةً ماديةً من خدماتها، أو تعارضت مع مصالحهم وأهوائهم وتوجهاتهم، وربما رأوا العشائريةَ كبديلٍ أكثر عدلاً وفعاليةً في بعض الأحيان، لكلٍ منا سببه الخاص في الاعتراف أو عدم الاعتراف بالسلطة الفلسطينية.
اعترافات الحكومات والهيئات الدولية لا تكفي السلطة للحصول على الشرعية الكاملة، وعلى الحكومة العمل بكدٍّ نحو تحقيق الاعتراف الشعبي من كافّة شرائح المواطنين؛ لإحلال السلم الأهلي قبل كلّ شيء، ولبناء دولةٍ عصريةٍ تحمل على كاهلها قدر المستطاع من هموم شعبها، وتحاول بما أتيح لديها من إمكانات ردّ ما تقدر عليه من كرامةٍ وحقٍّ لمواطنيها، والسعي في تحقيق التنمية والاستقلال.
وعلى السلطة أن تطيّب الجروح على عجل، وتسعى بجديةٍ لإنهاء الانقسام وتمثيل كافة فئات الشعب، ومحاربة الفساد، وإيجاد حلولٍ أكثر ذكاءً في حفظ أمن وكرامة ومصالح شعبها، وتحديد أولوياتها التنموية والبدء بتطبيقها، وتفعيل السلطة التشريعية، وإصلاح القوانين والأجهزة التنفيذية؛ لتجمع حولها كل الفئات، وتحققّ التطور والسلم الأهلي والوطني.
بتحقيق كل ذلك لن نحتاج إلى هذه القوة الأمنية المفرطة، وستذهب معظم الميزانية للصحة والتعليم والصناعة والزراعة والتطوير بدلاً من الهراوات والخوذ والدروع والأصفاد، فتحقيق الأمن يأتي بالعدل وتوفير الفرص والتعليم، ولا يأتي بالدوريات والسجون والبنادق، وما حدث مؤخراً بنابلس من عمليات ثأرٍ دمويةٍ يتساوى فيه من يحقّق القانون مع من يخرقه، قد لا تكون سوى بداية موجات عنفٍ تهددّ السلم الأهليّ وتمسّ أمن وسلامة كلّ مواطن، من بائعٍ متجولٍ في إحدى شوارع نابلس حتى وزيرٍ في إحدى مكاتب رام الله.