فلسطين المحتلة – قدس الإخبارية: عملية "تل أبيب" الرمضانية، التي وقعت في قلب مدينة تل أبيب وبالقرب من مجمع وزارة الحرب الإسرائيلية، وأدت إلى مقتل أربعة إسرائيليين بينهم ضابط في إحدى وحدات النخبة المقاتلة، تندرج في قلب الحالة الكفاحية الفريدة التي يخوضها الفلسطينيون منذ الأول من أكتوبر/تشرين أول من العام الماضي.
هذه العملية هي الأقوى حتى الآن منذ انطلاق ما سماه الفلسطينيون المنحازون لخيار المقاومة بـ "انتفاضة القدس"، وهو ما يجعلها قادرة على المساهمة في تجديد الوعي الفلسطيني المقاوم، ولا سيما حين النظر إليها من جهة ظرفها وتوقيتها وحين أخذها ضمن تحولات "انتفاضة القدس"، بالإضافة إلى عامل القوة في العملية نفسها.
ليست هبة عابرة
بداية ومنذ انطلاق "انتفاضة القدس"، بعملياتها الفردية ذات الكثافة العالية في شهورها الثلاثة الأولى، وبما واكبها من محاولات منظمة لاستنهاض الجماهير والدفع بالموجة الانتفاضية نحو حالة شعبية كبرى على منوال ما عرفه الفلسطينيون في إرثهم الكفاحي داخل الأرض المحتلة؛ أدرك المهتمون الملتحمون بالنشاط النضالي اليومي للفلسطينيين، أن هذه الحالة لن تكون هَبة عابرة، ولا قفزة في الفراغ، وإن كانت لا تملك الشروط الموضوعية الكافية للتحول أو التطور إلى أي من النموذجين الانتفاضيين الكبيرين الذين عرفهما الفلسطينيون، أي الانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية.
هذه العملية هي الأقوى حتى الآن منذ انطلاق ما سماه الفلسطينيون المنحازون لخيار المقاومة بـ "انتفاضة القدس"
إن إدراك الشروط الموضوعية للحالة الكفاحية الجارية منذ أكثر من ثمانية شهور، وما يميزها عن ما خبره الفلسطينيون في تجاربهم الماضية، ضروري لنفي التصورات المتعارضة التي تنتاب المتابعين عادة لنضال الشعب الفلسطيني، فمن جهة ينبغي ألا يُحمل الكفاح الجاري فوق طاقته إلى درجة افتراض قدرته على تحرير الضفة الغربية، وما كان ينبغي الاندفاع بالحماسة التي تولد عنها مثل هذا الافتراض مع أوج هذا الكفاح في شهوره الأولى، إذ كانت كل الشروط الموضوعية تعاند تصورا كهذا.
ومن جهة أخرى فإن هذا الإدراك ينفي التصورات الرومانسية المؤدية إلى تعطيل الكفاح، كافتراض القدرة على استنساخ نموذج الانتفاضة الأولى، وهي قدرة محالة ما دامت الشروط المانعة ما تزال قائمة، وهذه التصورات بافتراضاتها المفتقرة إلى إدراك الظروف والشروط والسمات الخاصة بالمرحلة وما يمكن أن ينبثق عنها من أشكال نضالية، سوف تؤدي حتما إلى رفض كل شكل نضالي متجاوز لتلك التصورات الرومانسية، وهو الأمر الذي يعني أن يتخلى الشعب الفلسطيني عن نضاله ما دام هذا النموذج المتخيل غير متحقق في الواقع!
مراكمة وتكثيف
بين هذين الحدين، أي بين حد المبالغة في تصوير الكفاح الجاري وتحميله فوق طاقته، وحد رفض الأشكال النضالية العنفية المنبثقة عنه، تأتي الطبيعة الخاصة للكفاح الجاري، فهي لم تكن مجرد هَبة أو قفزة في الفراغ لأنها أولا امتداد للهبة التي بدأت منذ يوليو/تموز في العام 2014 بعد حرق الطفل الفلسطيني محمد أبو خضير، وأسر المستوطنين الثلاثة في مدينة الخليل، وبالتزامن مع العدوان على قطاع غزة في العام نفسه، وهو العدوان الذي ووجه بمقاومة باسلة تميزت بأداء رفيع، وكشفت عن صلابة المقاتل الفلسطيني وإعداده الدؤوب، فانعكس ذلك على فلسطينيي الضفة الغربية الذين استصحبوا أثر هذه المعركة في عدد من الأحداث كان أهمها انتفاضة القدس.
وإذا أضيف إلى هذه المراكمة النضالية المستمرة منذ سنتين، الكثافة العالية في العمليات الفردية في الشهور الأولى من عمر هذه الانتفاضة، يمكننا القول إننا كنا وما زلنا أمام حالة أكبر من أن تكون مجرد طفرة.
الكثافة العالية في العمليات الفردية في الشهور الأولى من عمر هذه الانتفاضة، يمكننا القول إننا كنا وما زلنا أمام حالة أكبر من أن تكون مجرد طفرة.
تلك الكثافة ما كان لها أن تستمر، بسبب الطبيعة الفردية للظاهرة، ولكن هذه الطبيعة غير القابلة للقياس، حين النظر إلى سمتيها الأهم، المراكمة النضالية المستمرة ثم الكثافة في الشهور الأولى، تعطي إمكانية للتنبؤ بإمكان الاستمرار ضمن وتيرة منخفضة، قادرة على خلق المفاجآت المتباعدة، وقابلة للتصاعد أو الانتشار الواسع في أي لحظة، بحسب التحولات التي يمكن أن تطرأ على الشروط الموضوعية سياسيا واجتماعيا، ومن ثم وبعد بضعة شهور على انفجار انتفاضة القدس، ومع عملية رمضان بدأت الظاهرة بأخذ شكل جديد، تمثل في نمط معين عرفه الفلسطينيون في حقبة معينة، وإن كان لكل حقبة سماتها المختلفة.
تهيمن النماذج الكفاحية الكبرى التي تستقطب الآلاف من الجماهير، وتتحول إلى حدث مفتوح يحتل مكانة متعاظمة إقليميا ودوليا على الذاكرة الجماعية للفلسطينيين، كثورة العام 1936، والثورة الفلسطينية المعاصرة، والانتفاضتين الأولى والثانية، والحروب الأخيرة على قطاع غزة.
ولكن التاريخ الكفاحي للفلسطينيين لم يقتصر على هذه النماذج الكبرى، وتكيف بما يستجيب لطبيعة كل مرحلة، ويحافظ على ديمومة النضال بما يحافظ على تجدد الوعي الفلسطيني بالصراع، ويواجه المحاولات الاستعمارية الساعية إلى إعادة هندسته بما يلائم مصالحها، أو مصالح القوى المرتبطة بالاستعمار، ويزاحم القوى الاستعمارية وحلفاءها على ملء الزمن الفلسطيني، فيسعى لملئه بالكفاح الذي يدافع الفعل الاستعماري ومقولاته وأجندته التطويعية، وهو فعل مهم في لحظته، حتى لا يكون الزمن الفلسطيني خاليا إلا من الفعل الاستعماري، وحتى تبقى الجماهير في موقع الصراع مع العدو.
في الفترة الواقعة منذ أواخر الانتفاضة الأولى، ومع توقيع اتفاق أوسلو، وحتى العام 1998، كانت العمليات العسكرية المتفرقة هي النمط النضالي السائد، والذي أسس على مستوى الإلهام، وعلى المستوى الفعلي، للذاكرة الكفاحية الكبرى القريبة، فالبنية العسكرية لكبرى فصائل المقاومة في قطاع غزة، بدأت في تلك الفترة، بمجموعات قليلة ومتفرقة، وفقيرة السلاح والتدريب، ولكنها كانت بالغة الدور في الحفاظ على الروح المعنوية، وفي التمهيد لبناء عسكري مقاوم عاد وتشكل مع الانتفاضة الثانية مستفيدا من إرث تلك المرحلة.
وقد استمر ذلك البناء العسكري في قطاع غزة، وتفكك في الضفة الغربية من بعد اجتياح الضفة في عملية "السور الواقي"، وهو الأمر الذي تعزز من بعد الانقسام الفلسطيني، ويمكن لتصور حالة الإلهام التي تفتحت في تلك المرحلة، ولاسيما في الضفة الغربية، استحضار واحد من أبرز رموزها كالشهيد يحيى عياش.
بين مرحلتين
العمليات المسلحة المتفرقة التي تخللت انتفاضة القدس هذه تُذكر بتلك المرحلة التي استمرت مع نهايات الانتفاضة الأولى وإلى ما قبل الانتفاضة الثانية بسنتين، مع فوارق هامة أبرزها تقارب الظروف الموضوعية، في تلك المرحلة، ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وتشابك العمل المقاوم بين المنطقتين.
فقد تنقل قادة الجناح العسكري لحماس في تلك الفترة بين المنطقتين، كعماد عقل ومحمد الضيف ويحيى عياش، وكانت فصائل المقاومة، وفي طليعتها حركتا حماس والجهاد الإسلامي، هي المنظمة لتلك العمليات، بينما تختلف الظروف الموضوعية اليوم بين المنطقتين، إلى درجة كادت فيها الضفة الغربية كساحة مقاومة شرسة أن تغادر الذاكرة القريبة مع هيمنة مشاهد الحروب الأخيرة في القطاع، ومع الانطباعات التي عكستها سياسات السلطة في الضفة، ولذا كان من أهم إضافات هذه الانتفاضة عودة الضفة كساحة مقاومة رئيسة من حيث الفعل المستمر والمفتوح، إلى جانب ساحة المقاومة الراسخة في قطاع غزة.
وتختلف هذه المرحلة أيضا، بأن الفعل المقاوم المتفرق يقوم هذه المرة على المبادرات الفردية، بما يعكس الظروف القاهرة التي يعاني منها العمل المركزي، وهو ما تكشف عنه عمليات الاعتقال التي تقوم بها قوات الاحتلال، والتي تدل من الجهة المقابلة على المحاولات الحثيثة لبعض تلك الفصائل لاستئناف نشاطها المسلح.
كما أن كثافة العمل المقاوم الفردي الآن بطابعه المسلح هي أقل عددا وأضعف أثرا مما كان عليه الحال في تلك المرحلة التي نجري المقارنة معها، ولكن التشابه حاصل من جهة تحول الموجة الانتفاضية الحالية إلى عمليات مسلحة متفرقة تذكر بتلك المرحلة التي شكلت مهادا للوعي المقاوم الراسخ في القطاع، والذي يقوم بتجديد نفسه الآن في الضفة الغربية.
هذه المرحلة إن استمرت بهذا النمط من شأنها أن تؤسس لمرحلة تالية، أو على الأقل أن تستمر بنفس النمط الذي يقوم بدوره في الصراع على حيز الزمن وفي معركة الوعي
أن يقوم شابان فلسطينيان من جنوب الضفة الغربية، بتصنيع سلاحيهما يدويا، وتجاوز كل العقبات الأمنية، والوصول إلى موقع العملية المعقد، وتنفيذ عمليتهما بكل هدوء وارتياح، فإن هذا يعني -وحين وضع هذه العملية إلى جانب كل النشاط المقاوم المستمر منذ ثمانية شهور- أننا أمام تحول قد ينطبع بالعمليات المتفرقة، بما يُذكر بالمرحلة التي توسطت ما بين الانتفاضتين الأولى والثانية، وهو نمط مهم يتكيف مع الظروف الخاصة التي أهمها وجود سلطة فلسطينية مناوئة للعمل المقاوم.
وإذا تذكرنا الدور التأسيسي لتلك المرحلة الماضية، فإن هذه المرحلة إن استمرت بهذا النمط من شأنها أن تؤسس لمرحلة تالية، أو على الأقل أن تستمر بنفس النمط الذي يقوم بدوره في الصراع على حيز الزمن وفي معركة الوعي، بيد أنه لا يمكن الاتكال على عناصر الظاهرة الذاتية، إذ لا بد من تطوير الإسناد الإعلامي، واستعادة الدور المركزي للعمل المقاوم.