أنا في طريق العودة إلى بيتي اليوم، وبعد يومٍ ثقيل من العمل المتواصل حتى منتصف الليل، كنت أمشي في شارع الحديقة المؤدي إلى بيتنا، شارع الحديقة الذي لا حديقة بعده ولا فيه، والذي تنطفئ فيه إنارة الشوارع ليلا؛ لا أعلم لماذا؟! لكن الحال هكذا وأنا امشي و برد أيار يلسعني كنت أفكر بما جرى أمامي اليوم .
كان رجل في الأربعين من عمره يقول لابن أخته سأفعل بك وبفلان إن عاد وجرك إلى أي عمل تنظيمي. كان التفكير في هذا الأمر كمن وقع في عش من دبابير! فالأسئلة تلسع أكثر من سياط البرد؛ هل هذا الرجل جبان؟ أم انه فعلا يخاف على ابن أخته إلى هذا الحد؟ وترى لماذا يخاف عليه؟ إن كان غالي عليه فالوطن أغلى، هكذا علمونا في المدارس وفي اللقاءات الحزبية وحتى في المسلسلات والأفلام والمقالات والقصائد، هل فقد الشعب ثقته بالأحزاب الفلسطينية؟ متى؟ ولماذا؟ وكيف؟
على هذا الشكل اللامتناهي من الأفكار والأسئلة الشائكة؛ قضيت طريقي إلى البيت بعد أن أنهيت طقوسي المنزلية بعد يوم شاق من العمل، ودخلت غرفتي فلفت انتباهي كتاب محمود درويش "ذاكرة للنسيان". ترى لماذا كان يريد هذا الشاعر العملاق نسيان ذاكرته؟ و أي ذاكرة تلك التي يريد أن ينساها درويش؟!.
إنها بيروت سيدة الجمال العربي، لماذا يحاول أن ينساها وقد قال فيها ما قد قال: "لم تحرميني من فواكهك الجميلة، لم تقولي لي حين يبتسم المخيم تعبس المدن الكبيرة". إن درويش قال قبل 33 عاما من الآن ما قاله هذا الخال لابن أخته اليوم أمامي، بأن زرقاء اليمامة الفلسطيني، وأعني هنا المثقف الحر الذي لا يكون بوقا في يد التنظيمات التي تعاني من الشيخوخة والمتنازعة على السلطة، أقصد هنا ذلك المثقف الذي لا يقول إلا ما يمليه عليه ضميره تجاه شعبه، وقضيته العادلة حتى لو كلفه ذلك ما كلف .
لكن تنظيماتنا الفلسطينية التي تخلو من كل أنواع الديمقراطية ولا يوجد فيها غير التفرد بالقرار لم تسمع في الماضي، وأراها لا تسمع الآن إلى نبض الشارع. بل إنها حتى لم تعد تحاول أن تعيد هذه الثقة لشعبها، وكيف تعيد ثقة هي الآن من ضَرْبِ الخيال، ما دامت هذه التنظيمات تسير وفق هذا المنهج المتعرج.
في الوقت الذي تسحق فيه قواعدها الجماهيرية في المعتقلات وسلسلة الإضرابات عن الطعام، تزداد بطون قادتها تخمة، وفي الوقت الذي يصلب فيه أبناء هذه التنظيمات على كراسي التحقيق يقومون هم بالحصول على بطاقة (VIP).
يحق لهذا الخال أن يمنع ابن أخته من الالتحاق بهذه الجماعة، فبعد أن أصبح النضال واجبا على الطبقة المسحوقة ليحصد ثماره بعض المرتزقة والسماسرة، فإن هذا ليس نضالا وإنما رحلة في دروب الهلاك، كيف لك أن تذهب إلى معركة وأنت تعلم انك إن سقطت لن تجد واحدا ليأخذ هذه البندقية ويكمل ما بدأت؟! ولكنك سوف تلاقي العشرات يبحثون عن ما تخفيه من ذخائر ليبيعوها.
سقطت قلاعٌ قبل هذا اليوم لكن الهواء اليوم حامض، أجل لقد كان الهواء اليوم حامضا، لأنه يحمل في جعبته اكبر الهزائم والخيبات الفلسطينية "أسلو"، تلك الاتفاقية التي مزقت الثورة وباعت الثوار بثمن بخس تلك الاتفاقية التي ندفع ثمنها ذلا وقهرا حتى يومنا هذا.