الخليل – خاص قُدس الإخبارية: أمسكت بهاتفها النقال تتصفح المواقع الاخبارية المختلفة لمعرفة إن كان قد ارتقى شهداء آخرون هذا اليوم، قلبت بين الصفحات والمواقع ثم حمدت ربها قائلة: "الحمدلله اليوم رايقة وما في شهداء"، وتوجهت إلى منزل شقيقتها المجاور لها.
كان ذلك عصر يوم الجمعة (18/آذار/2016)، حيث جلست "أم محمود" في منزل أختها تتجاذبان أطراف الحديث، وما هي إلا ثوانٍ حتى تحول الحديث الهادئ إلى حالة من الاضطراب والتوتر وانتظار المجهول، فقد تلقت "الخالة" اتصالا هاتفياً يفيد باستشهاد ابن شقيقتها محمود أبو فنونة.
استشهد محمود أبو فنونة (21 عاماً) على دوار مستوطنة "غوش عتصيون"، وهو الموقع الذي يسميه الفلسطينيون اليوم "دوار الموت"، لتكرر ارتقاء الشهداء فيه، وأحد هؤلاء الشهداء محمود الذي ارتقى بعد أن أطلقت قوات الاحتلال النار على سيارته بتهمة محاولة تنفيذ عملية دهس هناك.
وتؤكد العائلة أن لا أدلة ملموسة على ادعاءات الاحتلال بمحاولة تنفيذ الشهيد محمود عملية دهس ضد جنوده، لأنه كان يسير بمركبته الجديدة على طريق بيت لحم، كما تنقل عن "شهود عيان" أن جنود الاحتلال أوقفوه وأطلقوا النار عليه بشكل مباشر، وهو يصرخ: "ما في معي سكين".
محمد أبو فنونة القيادي في حركة الجهاد الإسلامي، تلقى خبر استشهاد ابنه بصبر وقوة وتحمل داخل معتقلات الاحتلال، فهو أسير إداري منذ (22/تشرين أول/2015). لكن هذا الاعتقال ليس الأول في حياته، فقد تعاقبت سنوات عمره وهو معتقل في سجون الاحتلال من الشمال إلى الجنوب، منذ أن كان طفله الأول في القماط، وهو ما أثر كثيراً في أبنائه الذين افتقدوه في الفرح والترح، كما توضح أنعام أبو فنونة والدة الشهيد.
وتضيف أنعام لـ قُدس الإخبارية: "ابني محمود ترك المدرسة بعد الصف العاشر ليعمل خبازا في فرن بمدينة الخليل، حتى يساعد في مصروف البيت، وكان دائما يقول: لما يطلع أبوي من السجن برجع أكمل تعليمي".
وإلى جانب قراره هذا، كان محمود قد قرر تطوير خبرته في عمله من خلال افتتاح مخبز خاص به، ليكون نقطة انطلاق له في تأسيس مرحلة جديدة من حياته.
"أحنا بدنا ايا بجانبنا في أي وقت، عند الحزن يقف معنا، وعند الفرح يكون بيننا".. لقاء أذاعي سابق مع الشهيد محمود أبو فنونة للحديث عن والده الأسير محمد أبو فنونة. تم نشره بواسطة شبكة قدس الإخبارية في 20 مارس، 2016
وتوضح أنعام، أن إيثار محمود لعائلته على نفسه وتعليمه لم يكن قرارا شاذا في حياته، فقد تميز منذ طفولته بحب مساعدة الآخرين، واعتاد تفقد جيرانه الفقراء وتلبية احتياجاتهم يوميا، وإطعام الخبز لأبناء الحارة أثناء عودته من عمله، ما جعله مع طيبة قلبه شخصا محبوبا من كل من عرفه.
وعن اللقاء الأخيرة قبل ارتقائه شهيدا تقول والدته: "حضر إلى البيت بعد انتهاء عمله واستحم، وقبل ذهابه للصلاة قال لي: أنا معزوم اليوم عند صاحبي، ما تحسبي حسابي على الغدا". ثم خرج من البيت، لكنه لم يعد إلا محمولاً على أكتاف رفاقه.
وعاشت العائلة أوقاتا عصيبة بعد وصول الأنباء الأولية عن إطلاق الرصاص على محمود، فالأنباء تضاربت حول مصيره إن كان قد استشهد أو أنه مازال على قيد الحياة، كما تضاربت الأنباء حول هويته إن كان هو محمود فعلا أن أو أنه شخص آخر.
عند تلقيها الخبر الأولي عن استشهاده قالت أم محمود: "الحمدلله". لكنها فتحت المواقع الإخبارية لتجد أن صورة شخص آخر استخدمت مع الخبر، ليعود الأمل لروحها بأن ابنها مازال حيا، قالت: "يارب مايكون هو"، قبل أن يطلعها ابن شقيقتها على مقطع فيديو من موقع الإعدام، تأكدت من خلاله أن الشهيد هو محمود، وعلقت: "اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها".
ولم تكن العائلة قد استوعبت بعد الخبر الصادم، عندما اقتحمت قوات كبيرة من جيش الاحتلال اقتحمت المنزل الواقع في منطقة "واد الهرية" بالخليل، واحتجزت جميع من كانوا في البيت داخل غرفة واحدة، ثم شرعت بتفيش كل زاوية في البيت وكذلك التحقيق مع العائلة.
وتضيف، "قال لي الضابط: احنا قتلنا محمود على دوار مستوطنة عتصيون لأنه حاول يدهس جنود، شو بتقولي: قلتله: الحمدلله رب العالمين".
انسحبت قوات الاحتلال من المنزل بعد أن عاثت فيه خرابا بحجة البحث عن قطعة سلاح تدعي أن محمود يملكها، لكن مع مغادرة آخر جندي أُطلقت قنابل الغاز المسيل للدموع داخل المنزل، ما تسبب بحالات اختناق شديدة بين السكان.
وشيعت جماهير غفيرة جثمان الشهيد محمود انطلاقا من المستشفى الأهلي بالخليل إلى منزل عائلته في "واد الهرية"، قبل أن يوارى الثرى في مقبرة الشهداء بالخليل. وقد ودعت إنعام نجلها محتضنة جثمانها وماسحة بيدها على رأسها، لتبقى رائحته عالقة في راحتيها، ثم طبعت القبلة الأخيرة على جبينه مرسلة من خلالها حنان قلبها إلى روح ابنها حتى بعد أن فارقت جسده.
#شاهد والدة الشهيد محمود أبو فنونة تطبع قُبلة أخيرة على جبين ابنها قبل دفنه اليوم في مدينة الخليل. تصوير مصعب شاور تم نشره بواسطة شبكة قدس الإخبارية في 19 مارس، 2016