بقبضةِ يدي، أُمسك ما اعتلى صدري من ملابس "أكعبشها" حاذقة مختنقة، وربما جال في خاطري أن أصرخ بملء صوتي "أرجوكم كفى"، يراودني هذا الشعور كلما مررت بحديثٍ أو نقاش سياسي يستعرض حال المقاومة وتصرفات المقاومين وكأنهم يتحدثون عن أسطورة تاريخية قرأوا عنها في كتابٍ قديم.
في كل مرة كنت أقول بأعلى صوتي المتقطع، "المقاومة منا ولنا" وليست جسمًا مثاليًا فوق الوطن، يجلس على جنب يتفرّج علينا وكلما قرر أن يحرك جسمه أعلن عصيانًا أو ثورة، أو مثلًا كلما "انزنقنا" في حرب هبّ يلبي النجدة، كم مرة علينا أن نقول إن المقاومة كلنا، وأننا واحد في الجسم الوطني، حتى وإن اعتبرت ذلك كذبة سياسية!
دعنا نتفق في البداية أن المقاومة من أصل المجتمع إن لم نقل إنها فعل بشري عادي، ولنتفق أيضًا أنها تتشكل من أخي وابن عمي وخالي وعمي، ومن كل بيتٍ فينا أو بيوت جيراننا وأقاربنا، ألا تعترف أن المقاومين بشرًا مثلنا يعيشون بيننا، منهم الجند ومنهم القادة ولديهم تدابير أمنية وعقول مفكرة ومحاذير، لكنهم يأكلون طبيخ أمهاتهم، إنهم من كوكبنا!
يخطر لي أن أصدم أولئك الذين يتحدثون عن المقاومين كفعلٍ شاذ في مجتمع سلام، وأخبرهم أن المُقاوم الذي يبيت ليلته على الحدود الشرقية لقطاع غزة مع الأراضي المحتلة، يعود إلى بيته فجرًا ليخرج صباحًا يشتري الفول بجانب ابنك الصغير ثم تراه في دائرة حكومية أو ربما كان سائقًا على سيارة أجرة، ثم أسأله "ها، هل يبدو الأمر طبيعيًا الآن؟"
أما عن جماعة المطالبات، تعرفهم على الأغلب أنت أيضًا، أولئك الذين يجعلون من الفيسبوك منبرًا للتصريحات والمغالطات والمطالبات، وكلما عرج جمل قالوا "وين المقاومة؟"، صحيح أننا اتفقنا أن المقاومة منا ولنا لكنها ليست على قدر خاطرنا، هي لنا نعم لكن علينا أن نعترف بحقيقة أننا "ما بنتلاحق!".
نحن الآن بين حالتين واقعتين، بين فئة ترى المقاومة أسطورتها الدفاعية وأنهم أعلى من الشعب والمواطنيين حتى ترى بعضهم يراها منزّلة من عند الله وأنها ربانية ممتدة إلى السماء، من تجرأ على اتهامها كفر، شيء ما يشبه القدسية، وبين فئة أخرى تراها في الدرك الأسفل من الناس كلما وجدوا مشكلة على الشارع نادوا المقاومة لتحلّها، تذكرت مرة قال أحدهم أين دور المقاومة في التخلص من نفايات المنطقة، الأمر لا يحتمل!
الأخطر مما سبق ذكره حول بشرية المقاومة وكونها جسمًا فوق الوطن، هو اختلافنا على معنى المقاومة وجدواها، كما أننا في حالة صعبة حقيقة بين فشل المفاوضات وبين اخفاق المقاومة في تحقيق ما وعدت الشعب به عقب حروب ثلاثة بغض النظر عن حقيقة انتصاراتنا فيها، وربما كانت ظروف العالم أكبر من وعودها لكننا رغم ذلك ما زلنا نحاول أن نصدق وعدهم، هذه كلمة مقاومة تحترم!
غزة اليوم أمام حالة جديدة من الانفصال الحقيقي ليس على صعيد الانقسام بين حركتي فتح وحماس، ولا بكل الأمور التي نختلف عليها حتى مع الفصائل الأخرى، حتى وصل بنا الاعجاز إلى الاختلاف على عقد مؤتمر لإنهاء الانقسام وعلى انتفاضتنا الشعبية وعلى الثوابت التي ما عادت ثابتة في حسابات أحد، نحن نختلف في المسلمات الوطنية في أتفه توافهنا داخل قاعة لوزارة حكومية!
منذ يومين عاودت الأمور للتصعيد على الحدود الشرقية لقطاع غزة، بين اختراقات الاحتلال وبين رد المقاومة بقذائف الهاون واستهداف دوريات للاحتلال بعبوات ناسفة، بدأت أصوات الشعب تتعالى "لا نريد حربًا" أو "لا نريد انتصارًا جديدًا" كما عبّر أغلبهم، فيما انشغل الباقي في التصفيق لقوة المقاومة في ردع الاحتلال والتهليل لبيان القسام الأخير الذي وُصف بأنه وضع الخطوط الحمراء للاحتلال، هذا الاحتلال الذي ينتهك كل الخطوط الحمراء دائمًا بلا اعتبارات سياسة ولا إنسانية.
شهيدة أولى في التصعيد، ربما لن تكون الأخيرة، لكن كل ما نرجوه ألا تكون رحمها الله سوى "زينة الشهيدة" دون أن يختلف عليها أولئك الذي يفتون ليل نهار.. ثقوا تمامًا المقاومة لم تقتلها ولم تتسبب بذلك مطلقًا وليست من جرت التصعيد، كما أن الشهيدة زينة ليست بطلة أيضًا للأسف.