القدس المحتلة – خاص قُدس الإخبارية: غفت سارة وما زالت تسمع صوت شقيقها أحمد يرتل القرآن في الغرفة المجاورة، تستذكر نظراته عندما وقف يتأملها وأشقاءها بعد أن أحضر لهم مكسرات سهرة الليلة، رافضا الانضمام لهم على غير عادته، كما رفض تناول العشاء، "لربما تعب من العمل بمحيط المنزل ورعاية الأشجار وسقايتها طيلة اليوم"، قالت سارة لنفسها في ذلك اليوم.
يوم الإثنين (23/تشرين ثاني/2015)؛ مر أحمد جمال طه (21 عاما) على جدته، سلم عليها على عجل وأخبرها أنه ذاهب ليصلي الظهر في مسجد البلدة، على أن يعود قبل عودة أشقائه من المدرسة، بعد أن يقضي أمرا هاما.
مضى أحمد في طريقه، أخبر صديقه أنه صائم اليوم رافضا عرضه لتناول الفلافل الساخنة، ثم ذهب إلى مقبرة البلدة ووقف للحظات قرب قبر والده وقرأ له الفاتحة، وانتقل ليحيي صديقه الشهيد أنس طه، وجلس بجانب قبره وتحدث معه همسا.
[caption id="attachment_91753" align="aligncenter" width="912"] الشهيد أنس طه كان صديقا للشهيد أحمد[/caption]اليوم عيد حلا، تذكر أحمد ذلك فجأة، لكنه لم يكن يملك الوقت لانتظار عودتها من المدرسة حتى يعايدها، فقرر الذهاب إليها ليجدها مع صديقاتها تحتفلن بعيد ميلادها، وقف بعيدا حريصا أن لا تراه، ثم التقى شقيقيه وعانقهما وطبع قبلاته الأخيرة على وجهيهما، ثم أعطاهما نقودا ليشتريا بها ما يحبان.
في ساعات العصر، قررت سارة فتح التلفاز لمطالعة الأحداث، لتجد خبرا عاجلا عن عملية طعن استهدفت عددا من جنود الاحتلال غرب رام الله، فانقبض قلبها وأخبرت شقيقتها أن إحساسها يقول إن منفذ العملية من بلدة قطنة، "استدعاني عمي ليخبرني أن أحمد أصيب بعد تنفيذه عملية طعن... وعندما ألحيت عليهم تزويدي بالتفاصيل أخبروني أن أحمد قد استشهد".
نفذ أحمد (21 عاما) عملية الطعن قرب محطة وقود "دور ألون" القريبة من مستوطنة "موديعين" على طريق (443) غربي رام الله، وقد أسفرت عن مقتل مستوطن وإصابة آخر، قبل أن تطلق قوات الاحتلال النار عليه ويرتقي شهيدا.
تقول سارة، "أحمد استشهد في ذات المكان الذي استشهد به صديقه أنس، كان قد تأثر باستشهاده وبكى عليه كثيرا خاصة أنه قبل استشهاده حاول الاتصال على أحمد إلا أنه لم يسمع هاتفه فأحس بالذنب لأنه لم يرد على اتصالاته ... أحمد لم ينتقم لأنس فقط .. هو ذهب لأجل فلسطين وأكد ذلك في الوصية التي تركها لنا".
[caption id="attachment_91749" align="aligncenter" width="600"] وصية الشهيد أحمد[/caption]شاب هادئ، خجول، مؤدب، كان أحمد، أنهى دراسته الثانوية في الأردن ولم يتمكن من النجاح، حيث كان يعتني بوالده المصاب بمرض السرطان، "كان أحمد يعتني بأبي كثيرا وطوال الوقت، يرافقه للمشفى ويشتري له الدواء إلى أن توفى قبل عامين تقريبا". ثم عاد أحمد وأشقاءه للعيش في بلدة والدهم، فيما بقيت والدتهم في الأردن وتزوجت فيما بعد، ليصبح أحمد المسؤول الأول عن أشقائه.
من عمل إلى آخر، سعى أحمد وحاول امتهان عدة مهن لإعالة أشقائه وتخفيف العبء عن أعمامه، ثم بدأ يخطط لبناء منزل جديد له ليستطيع بناء أسرته الخاصة فيما بعد، "قبل أسبوع من استشهاده بدأ العمل في التمديدات الصحية وكان أجره أقل بكثير من أعماله السابقة.. أخبرنا أنه لن يبني منزلا جديدا ... وقال لنا إن 50 شيقل في اليوم تكفيه وتكفيهم، وأصبح يكتفي بالمبلغ كمصروف وإحضار الحاجيات اللازمة للمنزل"، تروي سارة.
ترك غياب أحمد فراغا كبيرا في حياة أشقائه، فتقول سارة، "نشتاق له كثيرا خاصة في ساعات المساء حيث اعتدنا أن يدخل علينا، يتناول العشاء معنا ويمازحنا ويلاعب اشقاءنا الصغار".
قبل استشهاده كان يطلب أحمد من شقيقته الصغرى حلا (11 عاما) التقاط الصور له والاحتفاظ بها. تقول حلا، "أنا أحبه كثيرا واشتاق له .. أفتقده في كل اللحظات، ولكن الآن هو شهيد وفي الجنة"، مضيفة، "كان أحمد سعيدا دائما، يلاعبنا ويمزح معنا دائما ويشعرنا أننا كأي أسرة عادية .. كلما يعود من العمل يحضر لنا الحلوى وما نحتاجه".
ما يقارب 40 يوما وسلطات الاحتلال تواصل احتجاز جثمان الشهيد أحمد، ما ضاعف ألم العائلة، يروي رياض طه عم الشهيد أحمد أن الاحتلال تعمد تسليم جثمان أحمد مع 11 جثمانا آخر في ظل وجود منخفض جوي كبير، وحاول وضع شروط على العائلات لدفن الجثامين مباشرة دون مراسم تشييع.
"كان جثمان أحمد موضوعا في كيس أسود، وكان متجمدا بشكل كبير جدا لم نتوقعه.. صدمت كثيرا عندما فتحت الكيس عليه، نبأ استشهاده كان أهون علي من أن أراه هكذا". ويضيف أن الجثمان حمل بوضوح آثار عدد كبير من الرصاص الذي أطلق على أحمد من مسافة الصفر، معتبرا أن العلامات التي ظهرت على الجثمان تؤكد التنكيل بأحمد قبل استشهاده وبعد ذلك.
وعن أحمد، يروي عمه، "لقد كان ذو بنية قوية كما شخصيته، محبوب ومقرب للجميع، كما كان كتوما جدا... استطاع أحمد تحمل المسؤولية التي ألقيت عليه خلال مرض والده وبعد وفاته، وتحمل الظروف الأسرية التي مر بها، ليصبح بعدها المسؤول عن أشقائه".
ويوضح طه، أن ابن شقيقه أحضر حجارة وبلاطا ليبدأ ببناء منزله، حيث كانت له أحلاما بسيطة ومتواضعة كباقي الشبان أقرانه، "أحمد تأثر بالشهداء الذين ارتقوا في البلدة، حيث أن عمر الفقه ومحمد شماسنة وأنس طه كانوا أصدقائه المقربين.. فاقتدى بهم وخطط لعمليته ونفذها".
قلقة دائما كانت الجدة على نجلها أحمد، تخاف عليه كثيرا طوال الوقت، "سمعته يقول قبل يوم من استشهاده أن أنس لم ينجح في قتل أحد في عمليته الفدائية.. ليذهب هو في اليوم الثاني وينفذ عملية ويقتل بها مستوطنا ويصيب آخر". وتضيف الجدة، "كان يسألني هل من المنطقي ان تقتل المرابطات هكذا ويقوم الجنود بتمزيق ملابسهن.. كان مقهورا جدا على ما يرتكب بحق النساء على الحواجز".
"قتلني استشهاد أحمد، أبكي عليه طوال الوقت، لا أستطيع النوم وأنا أبكي عليه وأتذكر فيه، كان شاب مؤدب وخلوق وحنون جدا" تتابع الجدة. وتستذكر وفاءه لها حتى آخر لحظات عمره، ومن ذلك أنه أصلح قبل يوم من استشهاده المغسلة في بيت جده، "وبقي طوال الوقت يضحك ويقهقه ويمازحني"، تقول جدة أحمد باكية.