مخيم قلنديا - خاص قُدس الإخبارية: وقف على حافة سطح المنزل، وبدأ يغني بصوت عالٍ: "جنة جنة تسلم يا وطنا"، وكلما توقف الشبان عن الغناء صاح بهم وهو يضحك "مرة أخرى بصوت أعلى"، فزخات الرصاص الكثيفة لم تخيفه، بل كان مشهد الجنود المذعورين يبعث الفرح في نفوس شبان مخيم قلنديا شمال القدس.
صبيحة التاسع والعشرين من شهر شباط الماضي، استيقظ إياد سجدية (22 عاما) من نومه وتناول فطوره ثم توجه لمقر دائرة الصحافة والإعلام التابعة لجامعة القدس، إذ كان يحضّر لمشروع تخرجه، الذي كان بمثابة البوابة التي سيخرج منها إلى حلمه المتمثل بتوثيق "الحكاية الفلسطينية".
عقب انتهاء الدوام، خرج إياد من الكلية متوجها نحو محل الملابس الواقع على الشارع الرئيسي مقابل مخيم قلنديا، فمنذ خمس سنوات اعتاد إياد أن يعمل في ذلك المحل منذ ساعات الظهيرة وحتى المساء، دون أن يتمكن من الجلوس مع عائلته أطول وقت ممكن.
تقول والدة إياد صباح سجدية، "إياد كان يعتمد على ذاته، فوالده كان يدفع له فقط قسط الجامعة، أما مصروفه وشراء ملابسه كان يؤمنه من خلال عمله بالمحل، أيضا كان يشتري لشقيقاته دون أن يطلبن منه أي شيء، وكان باستمرار يسألنا أنا ووالده إذا ما كان ينقصنا شيء".
رحيل هادئ
مساء اليوم ذاته، اقتحم جيب عسكري مخيم قلنديا شمال القدس، فتصدى له مقاومون بالرصاص وأحرقوه بعد أن ترجل الجنديان اللذان كانا يستفلانه ولاذا بالفرار، ليدفع جيش الاحتلال بقوة كبيرة ترافقها طائرة "هيلوكبتر" وجرافة بهدف الانتقام وتأمين هروب الجنديين اللذين اختفت آثارهما لبعض الوقت بعد أن سلك كل منهما طريقا بمفرده.
إياد وفور تلقيه معلومات عن مواجهات في المخيم، خرج مسرعا رغم محاولة صديقه أحمد شحادة منعه من الخروج من المحل، فإياد الذي كان عضوا في مركز قلنديا الإعلامي اعتاد توثيق أغلب المواجهات التي تندلع في المخيم، لكن في تلك اللحظات كان هناك شيء بداخله يدفعه للتوجه إلى المخيم.
قبل أن يصل إياد وسط المخيم، توجه نحو أحد المنازل وقال للشبان الذين كان برفقتهم جميعكم ستصابون إلا أنا، ومن سيستشهد فليذهب ويتوضأ وبدأ ذلك بنفسه، وعقب ذلك اعتلى عدد من الشبان سطح أحد المنازل قيد الانشاء وبدأوا بإلقاء الحجارة نحو الجنود المتواجدين في الأسفل.
يقول أحد أصدقاء إياد الذين رافقوه خلال المواجهات، "عقب ضرب الحجارة على الجنود كنا نلقي أنفسنا على السطح، الكل ممدد على ظهره نظرا لعدم وجود حافة نحتمي بها خلال المواجهات، وفي تلك اللحظات قال لي إياد وكأنه عزل نفسه عن كل ما يحدث حولنا: "انظر ما أجمل السماء والنجوم، تخيل وكأنك على شاطئ بحر يافا".
ويضيف صديقه، أن إياد عندما شاهد الجرافة تتقدم من مدخل المخيم بدأ يصرخ على الشبان، ومن ثم وقف ينتظر وصولها إلى وسط المخيم، إذ بدأ الجيش يطلق الرصاص بشكل كثيف لكنه وقف وأخذ يغني "جنة جنة تسلم يا وطنا".
سعيدا إياد كان في تلك اللحظات رغم حالة التوتر التي يشهدها المخيم، ففي خضم المعركة وقف على حافة المنزل يصرخ موجها كلامه لجنود الاحتلال "هي ولا أنت في مخيم قلنديا"، ليختفي بعدها ذلك الصوت ويرتفع ضجيج المواجهات، في تلك الليلة التي قال بعدها الجنود إن المخيم كان أشبه بساحة حرب، وفقا لما نقلت مواقع إسرائيلية.
بهدوء استشهد إياد عقب إصابته برصاصة في عينه اخترقت دماغه، حتى الشبان الذين كانوا برفقته لم يعلموا باستشهاده، فيقول صديقه، "وجدنا أحد الشبان ممددا على سطح المنزل، ظنناه متابعا أو نائما فقلنا له اذهب إلى بيتك، وعندما لم يستجب قلبناه على ظهره وأدركنا أن ذلك الشاب قد استشهد، لكننا لم نعرف من هو نتيجة الظلام، بحثت عن محفظته لأتفاجأ بأن من استشهد هو صديقي إياد".
تقول العائلة إن أحد الشبان الذي كانوا برفقة إياد نقل لهم وصيته وكان فحواها، "أريد أن تكفنونني بالعلم الفلسطيني، وأنا لست تابعا لأي فصيل، ولا تنزعوا حذائي، ولا تبكوا علي، وهاتفي أعطوه لشقيقتي براء المرضية"، كما كان يناديها".
الغائب الحاضر
باردة هي جدران ذلك المنزل، حزينة تلك الوجوه، غائبة تلك الروح التي كانت تبعث الفرح والسعادة، فمنذ استشهاد إياد والدموع لم تجف، لكن تلك الذكريات الجميلة التي تركها كفيلة بزرع الصبر.
إياد هو الابن البكر في العائلة؛ تكبره بنتين ويصغره ولدين وبنتين، طويل القامة، قمحي البشرة، يملك عينان ساحرتان واسعتان لونهما بني، صاحب ابتسامة جميلة لا تغيب، حنون، بار بوالديه.
تقول والدته، "إياد منذ طفولته كان هادئا، مؤدبا، مجتهدا، متفوقا في دراسته، متواضعا، كريما، محبوبا ويحب الجميع، شاب مثقف، يحب القراءة، ويبحث عن المعلومة".
كما كانت مادتا التاريخ والجغرافيا هما المفضلتان لدى إياد، وعندما أنهى الثانوية العامة قرر أن يدرس الصحافة والإعلام، وكان عندما يقرأ جملة في كتاب ما تعجبه يرددها ويكتبها على جدران المنزل أو حتى على جدران "سدة المحل".
وكثيرا ما تحدث إياد أمام أمه عن الشهادة، وعن أمله بأن يكون شهيدا في يوم من الأيام، لكنها كانت تجيبه "ما بسمحلك يما"، فيقول لها، "ليش يما بحب الشهادة"، ولذلك أمه كانت كلما اندلعت مواجهات في ساعات متأخرة تغلق باب غرفته وتأخذ هاتفه حتى لا يرده أي اتصال، وقد كانت تنجح أحيانا وتفشل أحيانا أخرى ليخرج ويوثق الأحداث.
قبل شهر من استشهاد إياد، كان يتبادر إلى ذهن والدته هواجس بأنه سيستشهد، فتخاطب ذاتها وتتساءل "ماذا ستفعلين لو حصل ذلك؟ اذهب إلى غرفته واتأمله وأقول: لو ابنك استشهد هيك رح يكون ممدد؟". وتضيف، "عندما استشهد جاءني ممددا كما رأيته، لكن الحمدلله ابني رفع رأسي في الدنيا والأخرة، وهو ضحى بدمه من أجل الأرض، إلا أنني اشتاق لضحكته وصوته لا سيما عندما كان يناديني يا شحرورة".
دون وعي كانت والدته قبل أسبوع من استشهاده تردد وتغني، "يا أم الشهيد زغردي كل الشباب ولادك"، ثم تهز رأسها محاولة طرد تلك الهواجس، وتنتقل من غرفة إلى غرفة لإشغال نفسها.
أما صديقه أحمد شحادة فيقول، "كنا نلّقب إياد بالمهلهل تيمنا بالزير سالم فهو يحبه كثيرا، أيضا كان يحب السفر، وكان متعلقا بعائلته وبمخيم قلنديا، نستذكره في كل زاوية بالمحل ترك بداخلنا ذكريات لا تنسى، وفي ذات الوقت جرح عميق بغيابه".