لم يكن تكوّن الوعي يحتاج لأكثر من أن يفتح عيْنيه كل صباح فتصطدم نظراته بالسقف المهترئ، فينعكس في الأشكال التي يتخيّلها في فراغات الدهان المتساقِط؛ عفريت وآر بي جي وخريطة فلسطين. هذه الفراغات التي تعكس أحلامه ومخاوفه التي تربّت معه فأصبح عمرها يزاحم عمره. هكذا تبدأ صباحاته، بصباح الخير للعفريت الذي يتلبّس أمه كل صباح فتصرخ: قوم الساعة 7، اتأخّرت ع المدرسة". وصباح الخير للـ"شبشب" الذي سيُضرب فيه ثم يرتديه ليخرج من البيت، وصباح الخير للمخيّم.
المخيّم، كان يتساءل كلّما تسكّع في شوارعه هل يحبّه فعلاً، أم أنّ كره المكان يرتبط بفكرة تكوّن المكان الذي لا يطيقها أي من سكان المخيّم. إلى الآن لم يجد جواباً؛ لكنّه كلما ذُكر اسم "الجلزون" شعر بفخر عجيب يجعله يتساءل: هل يمكن للمرء أن يفتخر بشيء لا يحبّه؟!. وفجأة عندما وجد نفسه أمام بوّابة مدرسة الأونروا أدرك أن كل هذه التساؤلات ما هي إلا حلم جديد يصرخ على الواقع، والحب والكره ليسَ له إعراب في الحقوق المسلوبة.
اعتاد في الفسحة أن يتسلّل ويجلس على حافّة سور المدرسة ويراقب، كان مولعاً بمراقبة الحركة واخراج نظرياته التي يبقيها لنفسه. المدرسة نفسها، الرّكن الذي يجلس عليه على السور الأزرق نفسه، الشارع نفسه، المخيّم أسفله يتكاثر بطريقة عشوائية تجعلك لا ترى سوى أسطُح بيوت متلاصقة يعلوها خزّانات سوداء وأعلى الشارع تتكاثر أبنية المستوطنة بشكل هندسي قبيح في فلسفة الجمال المتكونة بشكل بديهي في عقله.
كلما رأى وحدة استيطانيّة تُنشأ كان يأتيه صوت أبيه حين سمعه يقول ذات مرة: "يلّا خليهم يعمروها مشان بكرة نوخدها"، وضحكة عالية من الحاضرين. لكنّه لم يضحك كالبقية؛ رغم أنّه يدرك أن النكات الساخرة فن أسود يحتاج إلى الضحك للتخفيف من ثِقله. بقيَ صوته عالقاً في حنجرته: "كل هذه الأقوال التي تخرج بشكل بديهي ما هي إلا نتاج الشعور بالعجز المجبول بالذَل، ولكي نخفف من هذا الشعور نخترع فن التبرير وفن "بكرة" الذي نرمي عليْه أعباء عجزنا لنتأقلم مع العيش في عقدة "اليوم" وبؤسه.
الكرة تدور في الملعب وتتأرجح بين أقدام أصدقائه وأصوات المشجعين والمراهنين على فوز أحد الفريقين تملأ الساحة، وهو جالس كعادته يراقب الحركة. كان يتسائل دائماً: لماذا يجب أن ننحاز لأحد الفريقيْن؟ ولا يمكننا البقاء على الحياد في خيارات لا تمثّلنا؟!.
الـ"لا" وال"نعم" المتمثّله في القبول والرفض تحصر خياراتنا لنجد أنفسنا ننصاع إلى خيار ولا نصنع الخيار الذي يمثّلنا.. ضَحِكَ وقال إن كُنت سأشجّع سأشجع الكرة!. وما أن أنهى جملته حتّى رأى الكرة تجتاز السور إلى المستوطنة القريبة لتستقر في حاكورة المستوطن الذي يطلق الأولاد عليه اسم "ابو الغول"، بعد أن أطاحت بالعلم الاسرائيلي المعلّق على سور الحاكورة.
وَقَفَ مصعب على السور وشعر لأول مرة برغبته في الإفصاح عن نظريته التي حطّت في عقله عندما حطّ الفوتبول في حقل "ابو الغول"، صاحَ في زملائه: درس العودة الذي تعلّمناه قبل الفسحة كان بمثابة نواح متقولِب لا متسع له أمام عدو استعماري، ما فعله هذا الفوتبول هو المعنى الوحيد للعودة!"..
بعد أن أحسَّ أنه أنهى خطابه وأن الذهول ساد المكان، قفز هارباً إلى ملاذه الوحيد للهروب.. الشارع. هذا الشارع الفاصل بين المخيّم والمستوطنة؛ الذي يخرج أولاد المخيّم إليه ليفرّغوا عبء المخيّمات في حجارة يرشقونها على الدوريات العسكرية.
كان يقتله من الداخل ذلك الشعور الذي يتجدد كل صباح برؤية وجه المخيّم ووجه المستوطنة، الالتحام بالواقع يجعلك أقل حلماً، والأحلام القليلة التي تتولّد في عقل المستَعمَر ستُصَب لضحد الاستعمار الذي فُرِض عليه، ولإدراكِه أن كل الأحلام الأخرى سيكون وجها قبيحا يقف عائقا في تفاصيلها.
كان يفكر كثيراً في الفوتبول الذي عافَ جدران الأونروا واخترق المستوطنة ليستقر في الحاكورة، يدرك في قرارة نفسه أن فكرة العودة أكبر من المشاعر التي تتعاقب عليها الأجيال، هذا يشبه إلى حد ما شعور المحب الذي تأقلم على كونه المعذب حتى تصالح مع فكرة العذاب نفسها فلم يعد يطرق أبواب المحبوب ليزيح ذاك العذاب.
فتحويل العودة من الأفعال إلى مشاعر الحنين الدائم للحق المسلوب يُفقد الحق قوّته، على الأقل إنه لا يعيد هواء العودة إلى رئة اللاجيء، وأن الذي جاء بالصهاينة إلى بلادنا ليْس "الحنين الدائم للأرض" الذي يزعمونه؛ بل الاستعمار. والذي جاؤوا به يحتاج للمواجهة، إنها المواجهة التي دفعت مُصعب إلى اختراق الحدود والعودة إلى صفد ليُطلِق رصاصة في جبهة المستوطن الذي اغتصب بيت جدّه، والتقاط أنفاس العودة التي اقتات عليها احساسه كل تلكَ السنين.