كان رأسه في تلك الليلة أشبه بجهاز عرض الافلام القديم الذي مر خلاله شريط طويل من الذكريات، مد يده إلى ذاك المكتب الذي ما اعتاد أن يستخدمه إلا لمطالعة ذاكرته ... أخذ رشفتين من كأس القهوة، أعادت يده الكأس الى مكانها ثم عرجت على مكبر الصوت لترفع صوت أغنية عمره، ثم عاد ليبحر في ذاكرته.
"كان صوت سجانه الإسرائيلي يصرخ في رأسه بالعبرية قائلاً "مجاش" و التي تعني صينية الطعام، و أي طعام هو ذاك الذي يقدم لأسير كان الوطن تهمته؟! لم يدرك معنى تلك الكلمة إلا بعد وجبتين أو ثلاث. لم يفرط بالأكل بداية لأنه اعتبر ما تحويه صينية الاهانة هذه هو إهانة من نوع آخر أراد المحتل أن يبتلعها لكنه رفض.
و لينسى جوعه للحرية، عبثاً حاول أن ينظر في أنحاء تلك الزنزانة الرمادية يتفقد محتوياتها، هي بالحقيقة لا تحوي شيئاً، هي تحوي فقط وطناً و الكثير الكثير من اللون الرمادي: المغسلة المثبتة على الحائط، البطانية، الجدران، المرحاض و عمرٌ من الأسماء على الجدران، استلقى على السرير الرخمي أنساه شعور الذل الشعور بالشعور فلم يستخدم البطانية الرمادية لتقيه من الجليد الذي كان يتسرب عبر فتحة مربعة متعددة الثقوب أعلى سقف الزنزانة، ثم أغمض عينيه ونام".
مدّ يده مجدداً ليستمتع بطعم مرار القهوة التي لم يرضى مَراراً إلا مرارتها و الوطن، قرر أن يغير الموسيقى، فالموسيقى هي عبارة عن "ريموت كونترول" للتحكم بالذاكرة.
قفزت به ذاكرته الى ملعب مدرسته أيام بناء الإحتلال لجدار الفصل العنصري والذي قسم ملعب مدرسته الى قسمين، أحدهما بحجم الوطن، والآخر بحجم ما تبقى لنا من وطن.
استذكر مدى كرهه للإحتلال الذي أفسد عليه إمكانية الهروب من المدرسة عبر الباب الخلفي لها ثم الركض عبر ذلك الجزء من الملعب الذي صادره الجدار، ثم الإختباء خلف أول شجرة في الوادي الملاصق للمدرسة، ليشعل سيجارة كان دخانها هو سفينة زمن تنقله إلى عمر أكبر، الى أحلام اكبر، الى مدينة أكبر، الى منزل أكبر، الى غرفة أكبر، الى سجن أكبر يسميه وطن.
آخر رشفتين في كأس القهوة، غادر برفقتهما للأمس القريب، ليرى وجه صديقته الجامعية وكيف تتفتح بساتين الزهور في وجنتيها عندما تخبره عن صديقهم الثالث الذي وقعت في حبه، وكان يكبرهم عمراً وحباً.
هي صدقا لم تقع! هي بالأحرى طارت أو حلقت، لم تعرف ذاكرته أي المصطلحات أفضل للتعبير عن حال تلك الفتاة العشرينية التي أزهر ربيع قلبها برفقة ربيع فلسطين.
اسْتذكرَ عيني صديقه التي تشبه الحلم، كيف تلمع أملاَ عندما ينظر إليها، اسْتذكرَ عدد صليات الرصاص التي كان ينطقها صديقه عندما يتحدث معها أو عنها، اسْتذكرَ حباً مر بمحاذاته يتقاطع مع شهيق و زفير للحب المكبوت حياءاً في صدور صديقيه. لقد اسْتذكرَ ما اسْتذكرَ ثم غرق في صمت!
قُطعَ شريط الذكريات، توقفت أنغام الموسيقى و فرغت كأس القهوة، إلا أن الذاكرة لا زالت مليئة بما كان، و فيها متسع لما سيكون.