شبكة قدس الإخبارية

ثلاثيّات الموت

ولاء بزور

فلسطين المحتلة - قدس الإخبارية: أَخَذَ يرقُبُ السّماء من شّق الصور الملصقة على النافذة ويعُدّ الثواني التي تفصِلُ بين الرّعد والبرق ,كان يعلم أنَّ الغيْمتين الصغيرتين اللتين تحجبان بَدر الليْلة لن تحتمِل أكثر من ثلاثة تصادمات لتُفرِغ حمولتها وتضمحِل ,ارتدَّ بصره إلى الصورتيْن الذي ينظر من بينهما, على اليمين عيْنان سوْداوان حينَ يحدِّقُ فيهنَّ ترتدُّ عيناه احتراماً لمئات المقاتلين اللذين يبصرهم في عينيْه, فيبرز صاحب العيْنيْن السوْداوين بصوته وهو يقول "بإمكان اليهود اقتلاع جسدي، غير أنني أريد أن أزرع في الشعب شيئًا لا يستطيعون اقتلاعه"وتردّد أطياف الشّهداء صدى صوته، وعلى اليسار محاربٌ عتيق بعِقالِه وعَتادِه يتجلّى له على ظهر حصانه وهو يُجلجِل :"المقاومة هي السبيل الأوْحد للحريّة والكرامة",وبلحظة عاد ليخطفه سنا البرق من صورتيّ عبد القادر الحسيني والعيّاش، بدأ يتسلَّل ضياء البدر على أشجار الصنوبر ,كان يعلم أنَّ بداخله ذئباً سيدفعه للخروج عند بزوغ البدر، فتَحَ الرّعد الاخير باباً لصوت ابراهيم ليتمتم قبل خروجه وهو يضرِب السلام العسكري لأطياف المقاتلين على نافذته :تصادم المحاربين المخلصين مع أعدائنا لا سنا برقهم سينطفيء من الطريق الذي رسموه في قلوبنا ,ولا رعوداً ستكُفّ رجفتها في أجساد الأعداء … .

سطح البيت كان ملجؤه للوقوف والنظر إلى السّماء, وقطرات المطر الممزوجة بالضوء تسقط على جبهته المرفوعة, لطالما أحسّ بوجود تشابه بيْنَه وبينَ الذئب, شيء ما أصيل, ليسَت الشراسة أو الضعف الذي يتلبّسه أحيانا كما تتلبّس الذئاب, إنما حلقة مفقودة وموجودة تُحَس ولا توصَف, لطالما كانت الأحاسيس أعمق درجات الفِهم، تقول الأسطورة، إن "الذئب أقوى مخلوق على الأرض، لكنه لا يعرف ذلك، إلا أنه يتصرف أحيانًا وكأنه يعرف، كأنه أشجع كائنات العالم، أحيانًا أخرى يتصرف كأنه الأضعف، والأقل شجاعة"، هذا الوصف يروق لإبراهيم حينما تتكالب عليه لحظات الضعف والقوّة.

تسلّلت إليه أصوات المارّين وهم يتحدّثون عن ثلاثةِ شُبّان تعاهدوا على تنفيذِ عمليّة مشتركة بسيّارات آبائهم، كان اثنان منهم يجيدون القِيادة فأخذوا يدرّبون ثالثهم حسن، الذي لم تمسِك يداه مقود السيّارة قط، استيقَظَ حسَن في صبيحة يوم ليسمع خَبَر تنفيذ رفيقيْه عمليّة الدهس على أحد الحواجز العسكريّة، لم ينتظِراه، حمَلَ نفسه بعد أن بكى في بيتِ التهنئة الذي أُقيمَ لهما وأخذ يتدرّب وحده، وقف في سيّارته الحمراء على تلّة القرية كحنّونة بعيدة، حتّى يحتفظ بصورتها الأخيرة في عيْنيْه، كان يعلم تاريخ تسليم جثمانيّهم فذَهَب في اليوم ذاته ليُزَف مع أصحابه في عرسٍ واحد.

أخذت ثلاثيات الموت تخلق الدهشة في ذهن إبراهيم فلم تمض مدة قصيرة حتى جاء خبر ثلاثية أكثر تعقيدا ترعد في القدس التي ربما لم يروها أبدا، هذا الإيمان العميق بالمكان الذي حرموا منه وربما زاروها مرة في تسهيلات رمضان التي توضع لتجنب ردة فعل الحرمان فيزدادوا بعد الوصل ارتباطا.

بينما كانت عيناه تقلِّب الأمكنة في دهشتها لمحت صدقه القديم أمجد مستلق على سريره ويقلب المسدس (الروسي) الذي يمنح للضباط، كان يشعر بالمعركة التي تدور في رأس صديقه، أحس بسؤال بين المعارك: كيف يرعد ثلاثة صبيان لا يتجاوزون السبعة عشر عاما بشجاعتهم بأسلحة تدربوا على استخدامها أثناء المعركة وأنا أرتعد بجبني مع خمس سنين في الكلية العسكرية؟! . أحس بعبد القادر بجانبه ينظر إلى السلاح بين يدي أمجد ويقول: "نحن أحق بالسلاح المُخَزَّن من المزابل".

كان يدرك بأن الوطن كالإله يتجلى في المنتمين إليه والدالين عليه، فالوطن الذي تجلى لفارس في أمكنة سلبت منه هو ذاته الوطن الذي تجلى لغيره في الظلم والكرامة، وهو الوطن الذي يتجلى لرجال الأنفاق لاستعادته، وهو الأسباب التي تغوص في النفس حتى لا تستطيع تمييزها سوى أنها تعود إلى الحق الفطري، كان يؤمن بأن كل معركة فردية تحدث بين أحدهم والكيان هي معركة بين الوطن المتجلي في ذلك الفرد وبين الغاصب، وأي هزيمة ستعني انكسار شيء ما في العزيمة ،وفي مسيرة الطريق… .

لم يكن اجتماع أمجد وابراهيم وصديقهم الآخر أمرت مستغرب، كان يعلم أن السنين التي حاولوا فيها زرع أفكار المفاوضين في أدمغتهم ستختفي أمام فطرة انتزاع الحق باليد، ومع اكتمال البدر كان الذئب قد وجد حلقته المفقودة وأحس بأنه أقوى مخلوقات الأرض فاستبسل ومعه الضابطين في ثكنة عسكرية إلى النفس الأخير وقرؤوا على نجمات الضابط المزينة بدمائه "هذا هو الطريق"... .

*أبطال الثلاثية الأولى هم نور ومحمد سباعنة من قباطية وحسن البزور من رابا، وأبطال المجموعة الثانية الثلاثي أحمد ابو الرب ومحمد كميل وأحمد زكارنة.