قبل فترة من الزمن نشر أحد زملائي صورة على صفحته الشخصية، وكتب تعليقاً عليها "هنا فلسطين"، فكتبت له يومها رأيي في الصورة بشكل مختصر، وها أنا أنشر الصورة ونقدي لها من ناحية فنية وجمالية وتكوين بصري بل ومضمون أيضاً.
الصورة هذه يا سادة ليست في فلسطين، وإنما أخذت على الغالب في لبنان -أقول على الغالب لإيجاد ولو 0.1% من مساحة الخطأ- لكن خطأ صديقي في تحديد المكان يغفر له، وذلك مرده علمياً لما يعرف باشتراك مجموعة بشرية في (نظام إشاري واحد)، وحسب ما يقول الكاتب البريطاني جون فيسك، في كتابه مقدمة لدراسات الاتصال، "كلما اشتركت مجموعة بشرية في نظام إشاري واحد، كلما اقتربت هذه المجموعة من فهم الرسالة المصورة فهما مشتركاً"، ولذا كان الخطأ هنا مبررا.
علم العلامات أو الإشارات هذا هو ما يطلق عليه بعلم السميوطيقا أو علم السميولوجيا، وهو علم نشأ أواخر القرن التاسع عشر - أوائل القرن العشرين، واختُلف في مرجعياته، ففي حين يرى الانجلوسكسونيين أنه إنتاج أمريكي من "تشارلز بيرس"، يرى الأوربيين أنه إنتاج فرنسي مع اللغوي السويسري "فرديناند دي سوسير"، بينما يفصل البعض الآخر بين السميوطيقا والسميولوجيا، فيرى بعضهم أن الأولى صنيعة انجلوسكسونية مع دي سوسير، والثانية صنيعة فرنسية مع رولان بارث، والذي كان له إسهامات كثيرة في مجال السميوطيقا بشكل عام وسميوطيقا الصورة بشكل خاص.
بعد هذا التعريج على أصل العلم، دعونا نعود مرة أخرى إلى اللبس الذي وقع فيه صديقنا، وقلنا سابقا أنه خطأ مبرر، وبلغة أخرى فإن صديقي الفلسطيني ولاشتراكه مع المجتمع اللبناني في كثير من الصفات والعوامل، قام بتفسير هذه الصورة على أنها من فلسطين، وهذا تماما ما يذهب إليه ستيوارت هول، عند قوله "الذي يشتركون في ثقافة واحدة تتكون لهم خارطة ذهنية واحدة"، وبالتالي يشتركون في تفسيرهم للرسائل المصورة.
فالدمار الظاهر في خلفية الصورة، ولباس المرأة وشكلها، وطعامها أيضا، وطريقة الأبنية الموجودة، كلها عوامل مشتركة لدى الفلسطيني واللبناني، وكلها عوامل مشتركة يعايشها الفلسطيني يومياً، بل ربما هو الأقدر على فهمها من أي مجتمع آخر، لاحقا ستتضح الصورة أكثر عندما نفهم معاني الصورة ودلالاتها.
دعونا إذا الآن نغوص في أعماق هذه الرسالة الإعلامية المصورة لينجلي لنا غبار معارك علق بها،، ولنبدأ من المكان الذي يدلنا بشكل متصل بالزمان، فمن المؤكد أن الصورة كانت في إحدى الحروب الدامية في لبنان، ولعلها حرب صيف تموز عام 2006م، بين قوات الاحتلال الصهيوني من جهة، وحركة حزب الله اللبنانية من جهة أخرى، والتي اندلعت في أعقاب عملية اختطاف جنديين صهيونيين من قبل قوات حزب الله في 12 من يوليو/ تموز، ردا على احتفاظ قوات الاحتلال بمواطنين لبنانيين في سجونها لسنوات؛ أبرزهم الأسير سمير القنطار.
بالطبع قام الكيان الصهيوني مباشرة بشن هجوم على أهداف لبنانية، وبدأت حرب استمرت على مدار 34 يوماً، كان نتيجتها مقتل وإصابة الآلاف من اللبنانيين، وهدم مئات البيوت، ونزوح وتشريد الآلاف من القاطنين في مناطق الجنوب اللبناني، وبالعودة للمكان يمكننا التنبؤ أن هذه الصورة كانت في العاصمة بيروت تحديداً، وسط تجمع سكني ضخم، استنادا إلى طبيعة الأبنية هناك، بخلاف العمران في الجنوب.
كما أن الصورة التقطت بعد العصر بقليل، ويتضح ذلك من زاوية انعكاس ظل المباني المتواجدة في الخلف، ومن حدة الإضاءة في الصورة بشكل عام، والتوقيت هنا إشارة لقرب انتهاء المعارك الدائرة، وبدء وضع الحرب أوزارها.
الأم من الواضح أنها منهمكة في إعداد وجبة طعام دسمة بمعنى الكم لا النوع، فكما يبدو لديها عدد من كبير من الأبناء أو لربما عدد من اللاجئين في بيتها، لأننا نرى كمية البطاطا التي تقشرها وتنوي تقشيرها كثيرة، ونرى كذلك "شوال" بطاطا آخر خلفها ينتظر دوره في وليمة أخرى، أو لربما هي عادة عند البعض تخزين مثل هذه الأمور في "البرندة"، وفي نفس الوقت تتابع الأم نشرات الأخبار ومستجدات الأمور من راديو صغير متواجد على صينية البطاطا بجوار الطفلة، فالأخبار في هذه المرحلة تهمها جدا،، وفي نظرة معمقة أيضا نرى أن العنصر البشري في الصورة جوعى لما هو أهم من الطعام، إنهم جوعى للسلام، جوعى للحرية.
وبالنظر لنوعية الطعام أيضاً سنعرف أن الشح قد أصاب المنطقة ولم يتبق الكثير من نوعيات الطعام المختلفة، فتريد المرأة هنا إشباع عائلتها وضيوفها ربما بكمية البطاطا الكبيرة، علاوة على ذلك فإن رائحة البطاطا علمياً، وحسب آخر الأبحاث العلمية التي قرأتها تساعد على استعادة ذكريات الماضي وخاصة السعيدة منها، وتحديداً البطاطا المشوية، وهو الشيء الذي تحتاجه الأم وابنتها في هذه الفترة.
ما أقوم به حاليا يعني أنني قمت بدارسة لمجتمع الرسالة الإعلامية -لبنان-، وذلك لفهم معاني الصورة، فلا نستطيع تفسير محتوى ما، بدون الرجوع لحدود المجتمع الذي خرجت منه أو عبرت عنه الرسالة.
وبالانتقال يميناً إلى الطفلة الصغيرة ذو الشعر الأسود الحالك المنسدل على رقبتها؛ وبإمعان النظر والتدقيق وقراءة ما في نظراتها، نجدناها تحاول تفسير ما يجري حولها ضمن نطاق عقلها البسيط، فهي تنظر لمكان لعبها، ولبيت صديقتها المهدم، متسائلة ما ذنبي أنا؟؟
وعن جلستها نجدها غير مرتاحة (على قدم وساق)، وتواجدها بجوار أمها وبهذا التوقيت الذي غالباً ما يكون فيه الأطفال يسرحون بين أزقة وشوارع الحارات، يدلنا على عدم تواجد أحد تلعب معه، وأغلب الظن أن الخوف ألجمها عن فعل ذلك، وجعلها أكثر قرباً من أمها، بعكس عادة الصغار فهم كثيرو حركة ونشاط.
وفي هذا المحور الإنساني نستطيع القول أن الأم والطفلة تنتميان لبيت وبيئة متواضعة الحال، فكما نرى المنطقة مكتظة بالأبنية والشقق، كما أن لباسهما يدل على ذلك أيضا..
في الخلفية نشاهد دماراً هائلاً وكبيراً، كما نشاهد أناساً يقفون على أطلال بيوتهم المتهدمة أو المتضررة، ونشاهد في أسفل الخلفية بعضاً من الأغطية "الحرامات" أو الفراش، التي كما يبدو يحاول أهلها إعادة هيكلة الحياة من جديد ولكن على ركام الماضي، وهذا ما نقرأه ضمنياً في الصورة.
كما تكشف لنا الرسالة المصورة عن صمود المرأة وابنتها بين هذا الدمار، فكما يبدو عايشت الأم سابقاً معاناة الهجرة واللجوء داخل الوطن، لذا تجد من الأفضل لها البقاء في ظروف صعبة على أن ترحل وتقاسي ويلات مجهولة بالنسبة لها..
ختاما وُفِقَ المصور/ة في التكوين الفني لهذه الصورة، من حيث الألوان والمضمون، وبقي لي أن أقول أن كل ما قمت به مسبقا هو اعتقاد بأني أملك مفاتيح فك "شيفرة" هذه الرسالة الإعلامية المصورة، تبعا لدراستي الإعلامية، وثقافتي المرئية نوعاً ما، ولواقعي الحياتي اليومي، واشتراكي مع المجتمع اللبناني في أمور عديدة كالثقافة واللغة، كما ذهب لتفسير ذلك اللغوي السويسري دي سوسير، من أنه لابد من وجود أرضية مشتركة كاللغة والثقافة لإضفاء المعنى على هذه الإشارة وأتمنى أن أكون وُفِقْتُ في سبرِ أغوار هذه الصورة.