رام الله – قُدس الإخبارية: لم تعد زيارة "تاتا سوسو" مفعمة بذلك الشوق والاندفاع، بل بات ذكرها يثير الألم والبكاء، فرغم أن حضن الجدة ما زال ينبع بذات الحب، إلا أن الركض والاختباء في غرف منزلها بات مستحيلا، كاستحالة اللعب تحت شجرة الكينا الكبيرة أيضا.
في مساء الرابع عشر من تشرين ثاني وبعد ساعات من هدم منزلهم، أصرت أم معاذ أن تكون لجانب ابنتيها عند زيارتهن لركام منزلهن لأول مرة، ومشاهدة الجدران التي احتضنتهن طوال السنوات الماضية لم تعد سوى حجارة محطمة ما عادت تحتفظ بذكرياتهن، فيما سيكتشف أحفادها الأطفال أن زياتهم لجدتهم لن تكون بعد اليوم في منزلها العتيق.
في ذلك اليوم؛ اهتزت كل المنازل في بلدة سلواد شرق رام الله بعد تفجير منزل أم معاذ حامد المعتقل في سجون السلطة، وقد شعر كل أهالي البلدة بذلك الجرح، فلطالما اعتادوا عليه قائما وسط البلدة خلف شجرة الكينا الكبيرة، ذلك المنزل الذي بناه صالح حامد حجرا حجرا، طوال سنين حياته قبل أن يخلفه لأبنائه.
"أردت أن أزور ركام منزلنا مع ابنتيّ، حتى لا يذهبن وحدهن ولا يجدن هناك من يواسيهن"، اقتربت المركبة من المنزل وبدأت سما وشقيقتها الصغرى بالتقافز فرحا بالعودة إلى بيت الجدة قبل أن تريان مكانهما المفضل أصبح لا شيء، تقول أم معاذ، "صدم الأطفال كثيرا، لم يكونوا يتوقعوا أن يروا المنزل مهدوم هكذا، وكانوا يعتقدون أن إفراغنا لمحتوياته هو فقط ما فُرض علينا".
وتتساءل أم معاذ، "هل تتوقع اسرائيل من هؤلاء الأطفال أن يمنحوها الأمان غدا؟"، فيما تعلق سما (أربع سنوات)، "اليهود كسروا بيت تاتا وهدموه، وصار مش حلو ويطلع منه الدود".
وهدم المنزل تنفيذا لقرار صادر بتاريخ 15/تشرين أول الماضي، بعد تثبيت اتهام حامد بالانتماء إلى خلية نفذت عملية عسكرية قرب مدينة نابلس حزيران الماضي، قتل وأصيب بها أربعة مستوطنين.
لم يفارق الأمل أم معاذ التي لم تتخيل يوما أن تفقد منزلها، فالاحتلال لم ينتزع من نجلها أي اعترافات تدينه بها حيث أنه ما زال معتقلا في سجون الوقائي، كما أن المنزل المقام منذ أكثر من خمسين عام غير مسجل باسمه، وهو حق لـ 16 وريثا.
ومنذ عام 1958 بدأ بناء المنزل على مراحل مختلفة، لتحدثه العائلة وتطوره مع مرور السنين، "كان زوجي يحدثنا دائما كيف أدخر المال منذ شبابه ليحقق حلمه ليشتري الأرض ثم يبني هذا المنزل"، مضيفة، "بني المنزل من حجر عتيق جدا، يشعرنا دائما أننا نعيش في قلعة، حيث جدرانه عريضة جدا كانت تقينا برد الشتاء وحر الصيف".
أحفاد أم معاذ لطالما كانوا يشعروا بعراقة هذا المنزل، كيف لا وهو يمنحهم هذا الكم من الدفء والامن، "أحفادي الآن يسألون أمهاتهم قبل زيارتي إذا كانوا سيزورونني في المنزل القديم أم الجديد"، وما أن يتذكر الأحفاد ما حصل بمنزل جدتهم حتى يصرون على البقاء في المنزل، فبيت جدتهم الجديد لا يشدهم كما القديم.
تفجير المنزل، لم يمس الحجر فقط، بل مس ذكريات العائلة وماضيها، فتقول أم معاذ، "المنزل لم يعش به فقط أبنائي وأبناء زوجي، بل كان قد عاش به أشقاء زوجي أيضا، فقد احتضن كل العائلة"، مضيفة، أن تفجير المنزل قتل معظم الأشجار التي تحيط به، "كما ربيت أبنائي، ربيت هذه الأشجار واعتنيت بها، قبل أن يقتلها تفجير المنزل، الذي لم يمهلنا أن نقطف ما عليها من ثمار الزيتون والليمون".
"عندما فجر الاحتلال منزلنا، ربنا أسقط على قلبي الهدوء والصبر، لم أتوقع أني سأحتمل هذا الألم لولا أن الله ألهمني هذه القوة"، ضيق وحزن سيطرا على أم معاذ منذ أن تسلمت قرار هدم منزلها ليزول كل ذلك بعد أن اتخذت قرارها لتحدي الاحتلال وإغاظته بقوتها وقوة عائلتها.
بين ركام منزلها تنقلت أم معاذ مرتكزة على نجلها الأصغر نعمان، "عز علي المنزل كثيرا، ففي كل حجر ذكرى لنا، هو تعب سنين عمرنا ونحن نبني به ونطور عليه"، فقبل تسلم قرار هدم المنزل بأيام قليلة كانت العائلة قد أنهت ترميمه بعد أن كلفها أكثر من (70) ألف شيقل.
ولا تمر ساعة دون أن تردد أم معاذ جملتها "الله يرضى عليك يا معاذ"، ففي أصعب اللحظات كان معاذ مغيبا في سجون الاحتلال، وها هو اليوم مغيب في سجون السلطة، "أنا دائما أستمد قوتي من معاذ، من صبره ومعنوياته وقوته وشجاعته وحسن خلقه، هو فعلا بطل ".
وتضيف، "ذهبت لأزوره في ذات يوم الهدم، وحضرت نفسي لأشجعه لأجده يساندني ويشجعني، أخبرته أن كل بيوت الدنيا فداء لفلسطين كما أرواحنا".
وتؤمن أم معاذ أن تنفيذ الاحتلال لهدم منزلهم بهذه السرعة لا يعبر إلا عن غيظ الاحتلال وقهره، "كل ما يغضب الاحتلال ويغيظه يجب أن يفرحنا، نحن شعب مضحي من أجل الحرية، نضحي بمنازلنا وحياتنا وأبنائنا".