رام الله – خاص قُدس الإخبارية: يحكى أن طفلا فلسطينيا اسمه إبراهيم داود، طويل القامة، قمحي البشرة عيناه بنيتان، كان مفعما بالحياة، له أحلام وطموح بسيطة، لكنه لم ينعم بالأمان والسلام كبقية أطفال العالم، ذلك الشبل قرر أن يثور على واقعه ويعلي صوته بأننا نستحق الحياة، أراد أن يقاوم ليعيش، لكن في لحظة ما أطلق جندي رصاصته الغادرة صوب قلب إبراهيم لتنهي بذلك (16 عاما) من حياته.
بتاريخ 11/تشرين ثاني الماضي ارتدى إبراهيم ملابسه وخرج من منزله في قرية دير غسانة غرب رام الله صباحا دون أن تعلم عائلته أنه ينوي الذهاب إلى المواجهات قرب مستوطنة "بيت إيل" شمال البيرة.
في ذلك اليوم كان إبراهيم ذاهبا ليشارك في مسرحية بجامعة بيرزيت بإشراف أستاذه في مدرسة بشير البرغوثي أسعد الشعبي، إذ كان إبراهيم ممثلا بارعا، لكن لأن الأدوار كانت محدودة ويجب أن يشارك ثلاثة أولاد وفتاة، سأل أستاذه، "هل سأشارك بالمسرحية"؟ أجابه للأسف هذه المرة لا، ليتوجه إبراهيم بعد ذلك إلى المواجهات في "بيت إيل".
كان هذا اليوم يصادف الذكرى الـ 11 لاستشهاد الرئيس ياسر عرفات، العشرات خرجوا ليعبروا عن غضبهم إحياءً للذكرى ورفضا لكل ما يرتكبه الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني، وفي غمرة المواجهات كان إبراهيم بين المتقدمين للصفوف، في تلك اللحظة ترجل جندي من الجيب العسكري وأطلق الغاز بكثافة صوب الشبان، فأصبحت الرؤيا شبه معدومة ووقعت حالات اختناق عديدة، لينتهز الجندي الفرصة ويقنص إبراهيم بخبرة قاتل محترف.
رصاصتان إحداهما في القلب والأخرى في الصدر، انتبه الشبان بأن هناك فتى ملقى على الأرض ينزف، نقلوه مباشرة للاسعاف، ثم إلى مجمع فلسطين الطبي، أجرى له الأطباء عملية لاستخراج الرصاصة من قلبه.
أحد معارف العائلة أخبر أشقاء إبراهيم، لكنهم لم يخبروا والدتهم بذلك لأن إبراهيم هو طفلها الأصغر المدلل، فخافوا أن تنهار لسماع الخبر، واختاروا أن يهمدوا لها الخبر بالقول إنه أصيب برصاصة في القدم.
في اليوم التالي أرادت والدة إبراهيم زيارته، عندها اضطر أبناؤها لإخبارها، كان عليها أن تنتظر 72 ساعة حتى يقيم الأطباء وضعه الصحي، وبقي مدة أسبوعين في العناية المركزة، لا يسمح لوالدته وأقربائه بزيارته سوى لساعتين في اليوم، تقضيها أمه وشقيقته بالدعاء له وقراءة القرآن.
العائلة والأطباء في مجمع فلسطين الطبي أرسلوا ملف إبراهيم إلى خمس مستشفيات إسرائيلية في الداخل المحتل، لكن كان الرفض الجواب الوحيد الذي يتلقونه، مبررين ذلك بأن وضعه الصحي ميؤوس منه.
إبراهيم شهيدا
أسبوعان بقي إبراهيم يحارب تلك الرصاصة التي هشمت قلبه، لكن في مساء يوم الأربعاء 25-تشرين ثاني أعلن الأطباء استشهاد إبراهيم عقب تعرضه لنزيف حاد في الدماغ، رحيله عن منزله وأصدقائه وقريته كان بمثابة انتزاع الروح من الجسد، فدموع العائلة لم تجف بعد وفاة والدهم قبل بضعة أشهر.
أما الأسير يوسف داود شقيق إبراهيم الأكبر، والقابع في سجن "نفحة" يقضي حكما بالسجن المؤبد مدى الحياة، فقد سمع بخبر استشهاد شقيقه الأصغر عن طريق التلفزيون، فأخذ يحاول استذكار آخر مرة زراه فيها إبراهيم، ليجد أنها كانت في بداية العام الحالي، فاستذكر ملامح حديثه الطريف.
صورة لإبراهيم سمح الاحتلال بإدخالها ليوسف هي كل ما تبقى له من أخيه، ورسالة كتبها الأسير يوسف كانت جلّ ما يستطيع فعله، قال فيها، "من قلب سجن نفحة، من عمق الصحراء، ومن خلف جدران زنزانتي أقول لك أنك كنت وما زلت ستبقى جزءا مني ومن جسدي من ذاكرتي ووجداني، أرى وجهك الملائكي من نافذة زنزانتي".
وعن رحيل إبراهيم، يقول شقيقه أحمد لـ قُدس الإخبارية، "ترك فراغا كبيرا، كان الصغير المدلل، ترك كل الذكريات الجميلة، كان دوما يحب أن يمزح ويضحك، نادرا ما نراه غاضبا، الأقرب لوالدتنا كان بمثابة سند لها إذ كان يقضي معها وقتا أكثر منا، ما أن تحتاج شيئا حتى تطلبه من إبراهيم".
اللاعب الموهوب والممثل البارع
أسعد الشعيبي أستاذ التربية الرياضية في مدرسة بشير البرغوثي يقول لـ قُدس الإخبارية، "في النشاطات اللامنهجية وضمن فعاليات الوزارة كنت أبحث قبل حوالي أربع سنوات عن مواهب فنية تشارك في الفعاليات الفنية مثل المسرح، وكان يجب اختيار 5 أو 6 طلاب، وخلال جولتي على الصفوف وصلت الصف الثامن ولاحظت أن إبراهيم يملك موهبة فقمت باختياره".
فرقة "سكر زيادة" التي انضم إليها إبراهيم، فرقة فنية تجمع المواهب تضم طلبة مدارس وجامعات، خلال مشاركته في المسرحيات لمدة ثلاثة سنوات متتالية، حصلت الفرقة على المركز الأول على مستوى محافظة رام الله والبيرة، إذ كانت المسرحيات من بطولة إبراهيم.
يضيف الشعيبي، "إبراهيم كان يتقمص الشخصيات بشكل محترف، وكانت هناك ميزة لافتة أنه دوما يحاول أن يطور من موهبته، ويقول لي أضفت عمل جديدة وفكرة جديدة".
ليس ذلك فحسب، فإبراهيم كان لاعب كرة قدم محترف، يقفز فرحا كطفل بريء عند تسديد هدف في المرمى، ويقول زملاؤه إنه حلم دائما بأن يصبح لاعب كرة قدم كبير، إذ كان من المفترض أن يسافر مرة أخرى إلى فرنسا في شهر نيسان السنة المقبلة.
يتابع الشعيبي، "إبراهيم تم اختياره لمنتخب المدارس على مستوى محافظة رام الله وشارك بالبطولة وحصلت في حينها المحافظة على المركز الأول على مستوى محافظات الوطن، فكان إبراهيم من اللاعبين الأساسيين في الفريق".
ويصف الشعيبي إبراهيم بأنه صاحب شخصية كوميدية، قريب من القلب، يتعامل معه كصديق وزميل، يستمع لأوامر الأساتذة وينفذها حتى لو كان مجبرا عليها، كما كان متميزا في النشاطات اللامنهجية وجيد في دراسته الأكاديمية.
هل يرحل الشهداء للأبد؟
في الصف الحادي عشر أدبي مقعد فارغ وحزن عميق، دموع تملأ أعين الطلاب الذين حاولوا جاهدين إخفاءها، وطيلة فترة علاجه كانت الدعوات بالشفاء لإبراهيم هي كل ما يردده الطلبة، لكن إبراهيم رحل دون أن يودع أصدقائه وأساتذته للمرة الأخيرة.
أمير الشعيبي ومحمد التميمي وحازم البرغوثي، أصدقاء إبراهيم رثوا صديقهم بأجمل العبارات وأصدقها، فقالوا عنه، "كان طيبا محبا، طموحا، اجتماعيا، ما إن يتواجد في مكان ما حتى يدخل الفرحة في قلوب الجميع، كان متواضعا أحبه الجميع".
أما صديق الطفولة، أحمد الشعيبي الذي لم تفارق الدمعة عينيه، فقد تحدث عن إبراهيم وقد بدت الرجفة واضحة في صوته، فقال، "إبراهيم صديقي منذ سن السادسة، أول صديق تعرفت عليه، فهو صديقي في الملعب وفي القرية، بسيط جدا إذا طلبت منه شيئا لبى النداء، وإذا ما تخاصم مع أحد يسارع للاعتذار، يشاركنا في كل شيء أفراحنا وأحزاننا".
رحيل إبراهيم الأبدي حقيقة تأبى عائلته تصديقها، فيتساءل شقيقه أحمد، "هل حقا لن تعود؟ ألن أراك مجددا عائدا من مدرستك تبتسم لي، أرى جميع الطلبة أبحث عنك لا أراك! سأظل انتظرك في كل يوم في الصباح والمساء وعند الأكل ووقت المزح، أشتاق للعب معك لمعانقتك".