لعل أكثر ما يستفزك أن ترى عدوك بارعاً في شيء وقد تعداك بمراحل فيه، وترى نفسك مرغماً على الاعتراف بذلك، ليس لقصور في ثقتك بنفسك أو ممن هم شركاؤك في الأمر أو معلموك وأساتذتك في ذلك المضمار إلا أن الأمر ما لم تحفظه يد الدولة والسياسة وتدعمه رؤوس الأموال فلن يكون منه طائل مهما تفرد وعلا.
وقبل أن يكون لليهود دولة – كما تعلمون - كان مثقفوها من أمثال هيرتزل "الصحفي النمساوي" على إطلاع كافٍ بمعاناة شعبه في شتى أنحاء أوروبا وعلى العنصرية والعقوبات التي كانت تقع عليهم سواء كان لهم ذنب في ذلك أم لم يكن وبخاصة قضية ديرفوس عام 1894، حيث كانت الفتيل الذي أشعل برأس هرتزل أفكار الصهيونية وقيام دولة منفردة لليهود تخلصهم من معانتهم بين الشعوب المعادية و المتعنصرة ضدهم وغيره كثر ممن اجتمعوا على ايجاد الخلاص لشعبهم ولهم التقدير العظيم في ذلك .
لقد ولد حل الشعب اليهودي على يد مثقفيه وبدعمٍ من أصحاب رؤوس الأموال منهم ممن لديهم التأثير الكافي ، لذا كان للفكرة صدى وأملاً، وعلى مدى طويل وتخطيط حكيم وتنفيذ مخلص نمت تلك البذرة بشكل طبيعي وأخذت وقتها حتى استوفت حاجتها واكتمل بناؤها فولدت دولة صحيحة قوية لا ينقصها عضو ،لكنها مع الأسف كانت ولادة غير شرعية، جاءت لتخلص شعباً من ظلم الآخرين فظلمت بنجاته شعباً آخر ليس له يدٌ في تلك المظالم .
فإن جئنا على مقارنة بتاريخ معاناة الشعبين وحلولهما لذاك، سندرك بأن دولتنا جاءت ولادة مبكرة غير مكتملة وعاشت بإعاقتها متبناة من أبوين خاطئين
على كل حال لا نريد أن نشت كثيراً عن موضوعنا، وهو ما يمثل أحد الاعضاء القوية لتلك الدولة، الذي بدونه تكون عرجاء سهلة الوقوع ، وهو الإعلام، وللإعلام أشكال واتجاهات شتى، ولعل أرقى أشكاله ما يأتي من نوعٍ رفيع وعالميّ كالفن والأدب، ومما يعنيهم تصديره للعالم –أقصد اليهود- ليس بالطبع صورة دولتهم الحالية ذات الجيش الذي لا يقهر على حد تعبيرهم، وإنما صورة عن تضحياتهم، وعن أوجاعهم، عن العنصرية التي كانت تلاحقهم على مدى تاريخهم مع الحياة، وأهمها الهولوكوست والنازية التي قضت على كثير منهم بأبشع الصور، ورغم ذلك فإنهم أصحاب خلق رفيع ، يساعدون بعضهم البعض، محبون للحياة ، بارعون في الاستمرارية بقوة و إصرار، قادرون على تحقيق أحلامهم رغم كل الألم، وأن من يًكنّ لهم أي بغيضة هو حتماً إنسان به خلل أخلاقي وانعدام في العاطفة والشعور .
لقد كانت تلك أوضح الرسائل التي يحملها الإعلام اليهودي الاسرائيلي للخارج، بأهداف أهمها إمالة كف الرأي العام صوبهم باستمرار وقد نجحو في ذلك ببراعة، حين تتابع وترى انتاجهم في أهم وسائل الاعلام الحديث " السنيما"، التي لا تنفث إلا سحراً مؤثراً من أقوى ما أبدعه الأدب اليهودي، وبهذا المزج الذكي، كيف لا يحدث التأثير؟ وكيف لا تصل الرسالة، وكيف لا يقف معهم كل من لا يدري بالطرف الآخر الذي يلهث متاخراً ولا يكاد يصل برجله العرجاء.
حين تتبع الأفلام اليهودية أو التي تتحدث عن اليهود فيما قبل أو بعد او خلال الهولوكوست ستجد انها تحصد اعلى التقييمات على المواقع النقدية للأفلام بل وإنك لا تكاد تجد فيلماً منهم غير حاصل على جائزة، ومن أشهرها جائزة الاوسكار التي ترشح لها وفاز بها الكثير من أفلام اليهود ويكون أصلها في الغالب أدباً يهودياً، كفيلم قائمة شنلدر الفائز بالأوسكار لعام 1993م وهو مأخوذ عن رواية تعرف باسم فلك شنلدر لكاتبها اليهودي توماس كينلي، وترشح فيما ترشح فيلم عازف البيانو عام 2002 وهو فيلم مأخوذ عن سيرة ذاتية ، والتي تحمل نفس الاسم لعازف البيانو البولندي اليهودي فالديك سبيلمان.
وغيرهم الكثير من أمثال: "حياة جميلة "، و"حنا آرندت"– وهي من أهم فلاسفة القرن العشرين- ، كذلك" القارئ "، ويعتبر الأخير من أقوى هذا النتاج وأشدهم صفعاً لك ، حين تضطر بموضوعية بحتة الاعتراف ببراعة صانعه وقدرته على التسلل لنفس المتلقي وزرع فكرته بطريقة مختلفة عن المعهود، فيغدو مستسلماً لها ومتبنياً دون أن يشعر، ولأنني في الضفة المقابلة كان شعوري الأقوى بخبث الفكرة ودهائها في ترسيخ القناعة حول الشعب اليهودي كضحية، وأن المعادين للسامية هم الأكثر إجراماً وذنبا، وكل من ينتمي إليهم عليه أن يشعر بالخجل و العار، كحقيقة مطلقة.
إن رواية "القارئ" و- من بعدها الفيلم- لمؤلفها برنارد شلينك أول رواية ألمانية تصل أعلى قائمة صحيفة" النيويورك تايمز" لأكثر الكتب مبيعا، والتي ترجمت إلى 37 لغة وأدرجت في المناهج الدراسية الجامعية في أدب محرقة اليهود واللغة الألمانية والأدب الألماني.
إن هذه الرواية لا تحمل فكرة مجردة تلفظها بطريقة نيئة، بل إنها مطهوة جيداً بأفضل الأدوات الأدبية والخيال ، ومقدمة بأفخر الطرق الروائية الغير متوقعة للقارئ، ممزوجة بأبدع الأفكار والعاطفة الإنسانية التي تقع بشركها على حواس القارئ فتجعله مسحوراً بمذاقها تاركاً الفكرة تهضم وتنتشر في لاوعيه .
إن الرواية تبدأ بقصة انسانية بحتة، غريبة في عناصرها وتطورها، لتحقق عنصر التشويق والاثارة بأعلى درجاته الممكنة للمتلقي، وما إن تعلّق بالقصة الإنسانية حتى تنقله بشكل مفاجئ إلى عالم آخر يحمل الرسالة الحقيقية ولكن ليس بشكل جاف أيضا، بل بأسلوب مختلف ومتعمق في سمات الشخصيات التي تؤثر بشكل كبير في مصير الرواية ومجريات أحداثها، مع إثارة عالية لمسائل اجتماعية ونفسية وعاطفية بل وثقافية في جانب المسألة اليهودية، مما يصعب على المتلقي الفصل بينهم والاستمتاع بعنصر دون الآخر، فيضطر إلى بلعها سوياً وهنا يكمن كنه الكاتب .
وفي مثل هذه البراعة تنتقل الرسالة ويحقق الإعلام والأدب غايته، ولعل إعلامنا يحتاج في هذا المضمار الكثير ، كذلك في إدراك أهمية الفصل بين المحلي والعالمي، بين ما هو خاص في نقاش عيوبنا ، وبين ما هو ضروري كصورة للعالم عنا نحن الشعب الفلسطيني، وأمرّ بالذكر على فيلم "عمر" الذي تم انتاجه عام 2013 لصاحبه في الكتابة والإخراج والإنتاج هاني أبو أسعد، وهو ثاني أفلامه ممن يبلغ ترشيحات الاوسكار، ولا احد ممن شاهدوا "عمر" ينكر براعة الكاتب وقدرته العالية في وصف الحال الفلسطيني بتفاصيله الدقيقة ، ولكن هل فيلم عمر من الأفلام التي يجب أن تصل للخارج؟!
إن فيلماً مثله يلزمنا نحن الفلسطينيون لمعالجة واقعنا وليس لغيرنا بتاتاً، حين يصف حالة الجاسوسية بين المقاومين والوقوع في شباك العدو أثناء التحقيق (العصافير)، وقدرته على التفريق بينهم، وحالة الاقتتال الداخلي والشك المجتمعي بحال أي أسير محرر أو خاضع للتحقيق، وما عدا ذلك من الصور التي تلزمنا ولا تلزم سوانا، فنحن في أمس الحاجة لبناء قاعدة قوية ومتسعة من الإعلام الخارجي عن تاريخ القضية الفلسطينية وويلاتها منذ النكبة حتى حرب غزة إلى الانتفاضة الثالثة، كما هي الحاجة إلى تخصيص الإعلام الحال من معاناة الشعب على شكل انساني خاص ومؤثر بطريقة متقنة في مجالها ومصممة للعالمية حول ما لا يعد ولا يحصى من ضحاياه وأبطاله على حد سواء، وهذا ما يحتاج إلى دعم مالي وسياسي حقيقي.
علينا ان ندرك حقيقة جهل العالم بنا تماماً، حقيقة أن الكثيرين يعتقدون "أننا و اسرائيل دولتان متساويتان نقتتل على أرض، وبيننا حروب دائمة ".
علينا أن نتأمل أخطاء تلك الجملة جيداً .