أطفأتُ محرك سيارتي التي وقفت لأكثر من ساعة في مكانها بسبب أزمة السير التي خلقتها أربع مكعبات اسمنتية نصبها جنود الاحتلال في نصف شارع رئيس، بجانب مستوطنة بُنيت على أراضي "رأس العامود"، أطفأتُها ممسكةً بمقودها بتحفز ناظرةً إلى شاب يركب دراجة نارية، اجتمع حوله خمسة جنود مسلحين، فتشوه ودراجتَه بشكل كامل ومهين، اعترض؛ فانهالوا عليه بوابل من الشتائم واللكمات ثم تركوه.
يا ترى فيمَ كان يفكر وهو يغادر بقهر؟
ذلك الحاجز اللعين، ينتشر وأخواته في جميع أنحاء القدس المحتلة، على مداخل بلدات القدس كالعيساوية، جبل المكبر، رأس العامود، الصوانة.
يرى الناظر إلى شوارعها طابورا مخيفا من السيارات، لا يختلف أبدا عن طوابير السيارت المنتظرة على حاجز قلنديا شمال القدس أو زعترة جنوب نابلس. حتى أمست الطريق التي تتطلب في الوضع الطبيعي عشر دقائق تصل إلى أكثر من ساعة!
حينما تقترب إلى ذلك الحاجز لتمر إلى "الضفة" الأخرى من نفس الشارع –ماشيا كنت أو راكبا- تحملق فيك عيون عديدة، إحداها لجندي يحمل مصباحا يسلطه على وجهك ليلا، والأخرى لشرطي مرور يفتش سيارتك باحثا بلهفة عن مخالفة مرورية، أو آخر يخطف حقيبتك ليفتشها بدقة مريبة. حتى إنني صادفت مسنا يحمل كرشه الكبير أمامه، لم يمتلك إلا أن يضحك و "يطبَل" عليه حين أوقفه جندي ليسأله ماذا يحمل بداخله!
خوف هستيري مشوب بحقد ودوافع انتقام تملّك جيش الاحتلال الاسرائيلي منذ بداية شهر تشرين أول الماضي، حيت بدأت موجة عمليات الطعن والدهس في القدس المحتلة ردا على تدنيس المسجد الأقصى. هذا الخوف جعل من القدس مدينة أشبه بثكنة عسكرية ينتشر فيها جنود الاحتلال الذي يشتبهون بكل كائن حي متحرك، ويمتلكون الحق باعتقاله أو تفتيشه وحتى إطلاق النار عليه بمجرد الاشتباه به فقط.
في أحد الأيام عند باب الأسباط أحد أبواب سور القدس نصب الاحتلال آلة لفحص المعادن- أقامها أيضا في أرجاء البلدة القديمة- خرجت من الباب تلميذة مدرسة ترتدي حقيبتها على ظهرها، أوقفها الجنود الذين –يقاتلون ذباب وجوههم من الملل- وتناولوا حقيبتها وشرعوا بتفتيشها ثم أمروها أن تمر مرارا من تلك الآلة، انتهى التفتيش وانفجرت الصغيرة باكية في أحد زوايا السور.
الذي لم أتوقعه أبدا، ولم يتوقعه أيضا ساكنو حي رأس العامود، أن يغلق الجنود الحاجز بشكل كامل أمام السيارات صباح أحد الأيام من الصباح حتى ساعات الظهيرة. وللقارئ أن يتخيل حجم المأساة حين يغلق شارع رئيس بشكل كامل.
والمأساة الأكبر أن يستشهد فلسطينيان على الحواجز بسبب تعطيل وصولهما إلى المشفى؛ هدى درويش (65 عاما) من العيساوية ونديم شقيرات (52 عاما) من جبل المكبر؛ لتحطم تلك الحواجز الرقم القياسي في شتى صنوف المذلة والتعذيب.
جندي يقف تحت مظلة بجانب إحدى المكعبات، يغني بصوت "نشاز" أغنية تحمل كلمات بذيئة غزلية، يصرخ بها كلما مرت من جانب الحاجز فتاة أو امرأة تقود سيارتها. مقدار رهيب من القهر والذل تتجرعه عندما تتذكر أن ذات المكان الذي يقف عليه ذاك اللئيم وطأته أقدام مئات الآلاف من الجنود الفاتحة التي حكمت القدس يوما ما وملأتها عدلا بعد أن مُلئت جورا. ما يُعزي أهل المدينة ويخفف مصابهم إيمانهم المطلق أن تلك المكعبات ستتدحرج يوما لتسحق الجنود ودولتهم تحتها.