كانوا مُنشغلين بإشعال الإطارات المطاطية استعدادًا لانطلاق المواجهات الأسبوعية؛ وبينما كان هو يطلب منهم التراجع للخلف، واصل تقدّمه حاملًا بيده سلاحًا رشاشًا.. 35 دقيقة، تملّك الجميع خلالها الصدمة مما حدث.
التفتُّ حولي فلم أجد سواي.. من كانوا هنا بالعشرات تراجعوا للخلف، للخلف كثيرًا.
كانوا ينتظرون أن يفرحوا أو يحزنوا، فعقولهم حتى اللحظة غير قادرة على استيعاب المشهد، إنها المرة الأولى لجيل لم يتخطّ عتبات الثلاثين، التي يرون فيها اشتباكًا مسلحًا مع قوات الاحتلال ويسمعون صوته.. بالسلاح، نعم بالسلاح!
تقدّم بلباسٍ عسكريٍ كامل، مرتديًا واقيَ الرصاص، ملثمًا يحمل رشاشًا.. كان في كامل استعداده حين تقدّم بثقة وهدوء متجاوزًا من كانوا يستعدون لبدء المواجهات بالحجارة، مع جنود الاحتلال المدججين. قرب المدخل الغربيّ لبلدة سلواد الواقة شرق رام الله.
تجاوزهم وكأنه نسمة حرية، أشار لهم بيده وتمتم ببعض الكلمات أن ارجعوا للخلف.. لم يع الشبان في تلك اللحظة ما يدور، وما سيدور، والمقاوم يواصل تقدمه، ليخطأ التقدير الزمني ويفاجأ بجيب عسكري، ومركبة عسكرية أخرى.. ليبدأ الاشتباك، اشتباك مباشر.
قدّر المتواجدون في المكان أن المقاوم سعى للالتفاف حول الجنود قبل وصولهم، ومن ثم البدء بالاشتباك معهم من الخلف، فذلك لن يوفّر لهم ساترًا يحتمون به، ويمكّنه من إيقاع بهم أكبر قدر ممكن من الخسائر في صفوفهم.. إلّأ أن تقديره الزمني خانه، ولم يصل الجنود المشاة في ذات الوقت الذي وصلوا به يوم الجمعة الذي سبق الحادثة.
تعلقي بفطرة الحياة في ذاك اليوم ارتفعت بطريقة لم أستوعبها، فواصلت بيني وبين نفسي تأجيل ذهابي لتغطية المواجهات كالعادة، إلا أن حدسي في ذات الوقت كان يشير لوقوع شيء لكنه لا يرتقي لدرجة الاشتباك المسلح.
فلو تقدمت دقائق فقط لاستطعت ربما رؤيته، رؤية عيونه من خلف اللثام وحفظها إلى الأبد، وإشباع فضولي الفلسطيني بالوصول إلى تلك المرحلة من القوة، مرحلة الرد بالسلاح، الرد باليد من الحديد.
الكل كان يصفه ويتحدث عنه، ويمجدّه حتى قبل الحصول على نتيجة الاشتباك، حتى الشبان الذين رأوه، كنت أسمعهم يعيدون وصفه لبعضهم البعض مرارًا وتكرارًا، يريدون أن يؤكدوا لأنفسهم ما رأوه، ويؤكدوا للآخرين.
في دقائق الاشتباك الـ 35، كان التوقف يتم لهنيهات فقط، يعود بها المقاوم إلى الخلف، يعبأ سلاحه، ثم يتقدم بذات الطريقة ويكمل حربه التي أعلنها.
كان الرصاص ينهال عليه وحوله، منتقما من الهواء الذي يتنفسه، والتراب الذي يحمله، فكل رصاصهم فشل في إصابته أو بث الخوف في نفسه ودفعه للتوقف وتسليم نفسه، فها هو يكمل معركته الخاصة حتى إنهاء ذخيرته، ثم ينسحب دون أن يقتل، دون أن يصاب، دون أن يعتقل.
إعلام الاحتلال نشر أن "مخربًا" أطلق النار على النقطة العسكرية المقامة على أراضي البلدة، وانتهى هنا الخبر، وتطوى صفحته دون تناول أي تفاصيل، ولم يختلف الأمر كثيرًا عن الإعلام الفلسطيني الذي تناوله بذات السطحية.
قبل الاشتباك بساعة وصلت تعزيزات عسكرية كبيرة إلى النقطة العسكرية، تحضيرًا لقمع المواجهات الأسبوعية، وهو ما يؤكد أن المقاوم اشتبك مع قوات كبيرة من جيش الاحتلال.
وفور انسحاب المقاوم، رأيت مركبات إسعاف عسكرية تصل المكان، إضافة للتعزيزات الأخرى، تم تمشيط المكان، وأعلنت حالة الاستنفار، ليتقدم جنود الاحتلال منتقمين من الشبان المتواجدين بعد انكسارهم أمام ذاك المقاوم، ثم تغلق مداخل البلدة يومين كعقاب جماعي على البلدة الحاضنة دائما لمقاوميها.
الكل يتحدث باسم ذلك المقاوم، الذي يتجاوز اسمه ولقبه، المقاوم الذي أُجبِر وحسب بعض المصادر على تسليم نفسه للسلطة، حيث إنّه أحد أفراد الأجهزة الأمنية، التي لا تعتبره فردًا عاديا بل أكثر عناصرها ذكاءً ومهارة، فهو الأول دائما في كل التدريبات، هذا ما يتناقله أهالي البلدة، كما يتناقلون أن المقاوم انضم إليه آخران على الأقل.. وانسحبوا معه دون إصابة أي منهم.
وعن نتائج الاشتباك، فإحدى أكثر الإشاعات المتناقلة أنه قتل جنديا وأصيب ثلاثة آخرين، هذا ما رآه المقاوم خلال معركته، فيما يتستر عليه الاحتلال ويرفض نشر التفاصيل وكأن شيئا لم يكن.
سألت صديقي، هل منفذوا العمليات أكثر وطنية منا؟ أم أنهم أكثر انتماء للوطن؟.. فأجاب: هم أكثر شجاعة على الأفل!
نعم. إنهم أكثر شجاعة!