بثت قناة الجزيرة الإخبارية فيلماً وثائقياً ضمن برنامج تحت المجهر، بعنوان السلام المر، يتحدث عن اتفاقية السلام التي عقدت بين مصر و"إسرائيل" قبل 35 سنة، ولعلها كانت سنوات عجاف لم تأت على العرب والمسلمين بخير..
اعتمد الفيلم على مادة أرشيفية كبيرة، بل إن كل لقطات الفيلم هي عبارة عن أرشيف تاريخي، كان بعضه نادرا كما وصفته مخرجة الفيلم الفلسطينية روان الضامن، ورغم ذلك لم أشعر بالملل وأنا أتابع الفيلم، حيث استطاعت روان وبحس إخراجي جميل، ربط جميع المواد الأرشيفية بطريقة إبداعية صرفت عنا الملل، مستعينة بالتعليق الصوتي والذي عمل على خلق إطار جمع فيه قطع لعبة "البازل" لتتضح الصورة للمشاهد من بداية الحدث إلى اكتمال الصورة على أتم وجه.
بدأ الفيلم بتتبع الخطوات الأولى في اتفاقية السلام المصرية - الإسرائيلية والتي بدأت بوفاة جمال عبد الناصر ورسالة إسرائيلية سرية للقيادة المصرية الجديدة برئاسة أنور السادات، باستعدادها لفتح صفحة جديدة مع مصر..
ويكأن عبد الناصر كان سدا منيعا أمام أي فكرة سلام بين مصر ودولة احتلال،، أو لعل الإسرائيليين استشرفوا مستقبل السادات بقراءة ماضيه، ورأوا فيه الرجل المناسب لعقد هذا الاتفاق،، ربما..
يعرض لنا الفيلم إيمان السادات منذ البداية بدور أمريكا كوسيط لمثل هذا الاتفاق، عن طريق إيعازه عام 1972 لمستشاره للأمن القومي حافظ إسماعيل ببدء اتصال سري مع الولايات المتحدة، للوصول إلى حل سلمي مع "إسرائيل".
اتفاق السلام المر كما أسمته المخرجة، رافق حياة الرئيس المصري السابق منذ توليه الرئاسة بصفته نائب الرئيس جمال عبد الناصر، في 28-9-1970م، وحتى وفاته اغتيالا في 6-10-1981م، ردا على هذا الاتفاق..
يطرح الفيلم قضية حساسة شغلت في وقتها الرأي العام العربي، عقدت لأجله المؤتمرات، ونقلت مقرات ووو الخ، بيد أن القصة تبدأ فعليا مع إدراك السادات أن الإدارة الأميركية غير جادة بالإسراع بالحل السلمي مع "إسرائيل"، "فقرر أنه لا بد من حرب لتحريك الموقف رافعا شعار التحرير، لذا تحالف مع حافظ الأسد في سوريا، وجاء هجوم السادس من أكتوبر العاشر من رمضان مفاجأة للإسرائيليين والأميركيين، كان نصر الأيام الأولى نتيجة تحالف عسكري بين القاهرة ودمشق ودعم مالي عربي وتضامن لعب فيه الملك فيصل بن عبد العزيز دورا قياديا باستخدام سلاح النفط العربي فأحس المواطن الأميركي العادي لأولى مرة بأن مشكلة الشرق الأوسط تمسه" كما تقول روان راوية الفيلم.
بيد أن برقية سريا أرسلت إلى هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، وبعيدة عن أعين رئيس هيئة أركان القوات المسلحة المصرية الفريق سعد الدين الشاذلي، والذي أشرف على الهجوم الناجح على خط بارليف، عرضت فيها مصر استعدادها لوقف إطلاق النار والتوصل إلى سلام مع "إسرائيل" مقابل انسحابها من سيناء.
ومع انتهاء حرب أكتوبر التي أراد لها السادات أن تكون مفتاحا لتحريك العملية السلمية بين مصر و"إسرائيل"، بدأت الجولات المكوكية بوساطة أمريكية لقعد هذا الاتفاق، الاستثنائي من نوعه، مع كبرى الدول العربية ذات البعد العربي والإقليمي.
استطاعت المخرجة روان أن تضعنا في إطار تاريخي لجميع الشخصيات المؤثرة في صنع قرار اتفاقية السلام، فمن تعريف بهوية كيسنجر اليهودية، إلى تاريخ رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن في قيادة عصابة الأرغون الإرهابية في أربعينات القرن الماضي، والمسؤولة عن قتل مئات الفلسطينيين، وأشهر عملياتها مذبحة دير ياسين، بالإضافة إلى تسليط الضوء على التاريخ العسكري لكل من وزراء حكومة بيغن عام 1977م، ابتداء من موشيه ديان، ومرورا بعايزر وايزمان، وختاما بآرئيل شارون،، والغريب أن هذه الحكومة قادت "إسرائيل" إلى اتفاق سلام تاريخي, فأي سلام هذا الذي جاء بأيد ملوثة بدمائنا؟؟
وبرابط ذكي لا يخفى على باحث ومعد جيد في فيلم وثائقي ممتاز، استطاعت الضامن الربط بين كل جولة من جولات التفاوض ومجازر الكيان الصهيوني، وهو ماض متجدد في حاضر أليم، لكن قليلون هم الذين يعون الدرس جيدا..
وفي تاريخ التاسع من نوفمبر تشرين الثاني، أعلن السادات خطوته الدرامية القادمة وهي استعداده للذهاب لإسرائيل، بل وزيارة "الكنيست"،، لما؟؟، لأنه يريد أن يناقشهم... فهم هكذا العرب المستسلمون، تكون عملية التفاوض بحد ذاتها محور الأمر وجوهر الصراع...
عشرة أيام فقط وكان السادات أنور في الكنيست، رغم استقالة كلا من وزير خارجيته، ووزير دولته للشؤون الخارجية، فحطت طائرته الرئاسية مساء 19-11-1977م في مطار اللد، في الوقت الذي كان فيه الحجاج ينفرون إلى مزدلفة بعد وقفة عرفة، وشتان بين النفرتين!!
ثم ينقلنا الفيلم إلى حفاوة اللقاء الإسرائيلي للسادات وأجواء خطابه في الكنيست في اليوم التالي، وكذلك لقائه رئيسة وزراء "إسرائيل" السابقة إبان حرب أكتوبر غولدا مائير، "المرأة العجوز"، هكذا كان يسميها السادات، وهكذا تجاذبا أطراف الحديث أمام أكثر من ألفي صحفي ومصور، بعد أن أهدته تذكارا بمناسبة حفيدته الجديدة، يااا لهذه المرأة الحنون،، وكأن يداها لم تلطخ أبدا بدماء الفلسطينيين في مجازر ومذابح الصهاينة، وكأنها ما زالت تدرس في مدراس ولاية ويسكونسن الأمريكية، ولا علاقة لها البتة بما يجري في فلسطين.. مغفلون نحن عندما نصدق أقوالهم ونتناسى أفعالهم،، وانتهت هذه المحطة بصوت الضحكات الصاخبة للسادات ومائير، بشكل يدعو للقرف والاشمئزاز..
والملفت للنظر في محادثات غولدا وأنور، أن غولدا كانت تظهر بمقام الاتفاق الجمعي مع القوى الإسرائيلية الأخرى، بينما تحاول إظهار السادات بالمنفرد أمامهم، وهذا بالفعل ما حصل فالذئب لا يأكل من الغنم إلا القاصية،، كان ذلك ماثلا في جملها مثل:
- دعنا نتفق على أمر واحد يجب أن نستمر وجها لوجه نحن وأنت...
- أريد أن أعيش لأرى ذلك اليوم يوم السلام بيننا وبينك...
بعد هذه الزيارة التاريخية تصاعدت حملات الاستهجان العربية، وتعمق الانقسام العربي، فجاء عنوان التايمز البريطانية "وداعا للتضامن العربي".
فيما بعد دعا السادات بيغن لزيارة مصر، فاستقبل حسني مبارك نائب الرئيس المصري، بغين في مدينة الإسماعيلية، مشاهدة حسني مبارك في هذه المحطة تنبئك بما كان يٌخطط له أن يكون هذا الرجل فيما بعد،، واحتفل بيغن بعيد ميلاد السادات 59، والذي تصادف في ذلك اليوم..
وكالمخدر كانت رسائل بيغن للسادات حين قامت "إسرائيل" بعملية محدودة كما وصفها بيغن، "آملا ألا تؤثر هذه العملية على المحادثات الجارية بين بلدينا"، اجتياح 30 ألف جندي إسرائيلي لجنوب لبنان وقصف 90 قرية لبنانية ونزوح 100 ألف مواطن، ويسميها عملية محدودة... وكأن التاريخ يعيد نفسه،، فكم من عملية تفاوض استمرت على وقع صواريخ على مدينة فلسطينية هنا أو هناك..
وعلى امتداد 13 يوما من سبتمبر 1978م استمرت المفاوضات بحضور المصريين والإسرائيليين وبوساطة أمريكية ممثلة بالرئيس جيمي كارتر، هذا الذي كان "خاطره" له شأن عظيم، وتم التنازل عن قضايا كثيرة "علشان خاطر كارتر" مخافة أن يخسر السادات صداقته الشخصية معه، غير أن وزير خارجية مصر محمد إبراهيم كامل لم يعبأ بخاطر كارتر، وقدم استقالته،، لقد ذكرني هذا المشهد بانسحاب د. حيدر عبد الشافي من مفاوضات أوسلو عام 1993م..
وفي نفس العام حصل كلا من الرجلين بيغن والسادات على جائزة نوبل للسلام مناصفة بينهم وذلك على جهودهما الحثيثة في تحقيق السلام في منطقة الشرق الأوسط، وهي نفس الجائزة التي تشاركها فيما بعد كل من الرئيس الراحل ياسر عرفات وشمعون بيرس و رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين، عام 1994م، أما الرئيس الأمريكي جيمي كارتر فحصل عليها متأخرا عام 2002م.
وبعد تنازلات كبيرة من الطرف المصري أمام تعنت الكيان الإسرائيلي واشتراطات بزيادة حالة الأمن، وضمان الحصول على النفط المصري بسعر تفضيلي، تم "فتح فصل جديد في تاريخ التعايش بين الأمم" كما قال السادات، وأي تعايش هذا!!! كان ذلك في العاصمة واشنطن، 26 من مارس لعام 1979م.
مرة أخرى تلعب "الصدف" لعبتها وهذه المرة بزيارة قائد عصابة الآرجون سابقا ورئيس الوزراء الحالي بيغن، لبلد عربي في الذكرى 31 لمذبحة دير ياسين.
ووسط تبادل الزيارات بين بيغن والسادات، تصاعدت حملة المقاطعة العربية لمصر، الأمر الذي قابله السادات بالسؤال عن الخطط البديلة، "إذا كانت كامب ديفيد غير مناسبة، فأين البديل الملائم الذي تقترحون؟" كان الدعم المالي يزداد يوما بعد يوم لمصر جراء اختيارها لطريق السلام كما قال السادات، وكانت "إسرائيل" قد تفرغت لحدودها الشمالية بعدما أمنت جنوبها..".
وجراء تزايد المعارضة الداخلية لنهج الاتفاق السلمي مع الاحتلال، وجراء حملات القمع المسعورة التي قام بها السادات تجاه معارضيه، أقدم الملازم الأول خالد الاسلامبولي برفقة خمسة من زملائه في الجيش المصري، باغتيال الرئيس المصري السابق محمد أنور السادات، ثالث رؤساء الجمهورية المصرية العربية، كان ذلك في احتفالات نصر أكتوبر، في عملية استمرت 40 ثانية فقط، هي نفس التوقيت تقريبا الذي استغرق بتوقيع اتفاقية السلام المر،، رغم مسؤولية أمريكا عن الأمن الشخصي للرئيس السادات، حيث تم الاتفاق مطلع العام 1974م وقبل الخوض في تفاصيل المفاوضات، أن تتحمل الولايات المتحدة الأمريكية مسؤولية الأمن الشخصي للسادات في مصر..
ويبقى التساؤل موجودا بعد 35 عاما، هل جاء سلام حلوا على أمتنا العربية؟؟ أم أن المرارة لازمت جميع الاتفاقيات السلمية المبرمة؟؟؟ سؤال يترك إجابته للشعوب العربية..
وفي خاتمة جميلة، وعلى صوت الشاعر العراقي أحمد مطر، نشاهد أسرابا من العرب يهرولون لتوقيع اتفاقيات السلام مع "إسرائيل"، اتفاقية أوسلو، عام 1993م. اتفاقية وادي عربة، عام 1994م. اتفاقية طابا –أوسلو 2 عام 1995م. اتفاقية واي ريفير عام 1998م.
"الثور فر من حظيرة البقر الثور فر
فثارت العجول في الحظيرة
تبكي فرار قائد المسيرة
وشُكلت على الأثر محكمة ومؤتمر
فقائل قال قضاء وقدر
وقائل لقد كفر
وقائل يا سفر
وبعضهم قال امنحوه فرصة أخيرة
لعله يعود للحظيرة
وفي ختام المؤتمر تقاسموا مربطه وجمدوا شعيره
وبعد عام وقعت حادثة مثيرة
لم يرجع الثور ولكن ذهبت وراءه الحظيرة".
روان الضامن: مخرجة ومنتجة ومعدة ومقدمة برامج في قناة الجزيرة الفضائية، حصلت على بكالوريوس في الإعلام التلفزيوني والإذاعي من جامعة بير زيت، ثم على الماجستير في مجال الإعلام التلفزيوني من جامعة ليدز البريطانية.