تدوينة: إياد الرفاعي
كنا نساعد أمي بتحضير مائدة الإفطار الرمضاني ذات شتاء، حينما أذاعت فضائية المنار شريطًا مصورًا للإستشهادي عاصم ريحان، ابن قرية تل قضاء مدينة نابلس.. لحظات صمتٍ طبيعيةٍ، شبيهة بأي لحظات صمت حينما ننصت للأخبار سادت منزلنا، قبل أن ينفجر شقيقي صارخًا باكيًا، تاركًا المائدة، وذاهبًا إلى سريره، حيث أخفى وجهه بين الوسائد.
يومها أفطرت على أفكارٍ وتخيلاتٍ عديدة، ولم ألمس طبق الطعام أمامي، وأنا أتخيل كيف استقبلت عائلة الشهيد الخبر، هل استقبلته كما استقبله شقيقي الذي لا يعرف الشهيد؟
أدركت بعدها، أن الشهيد عاصم زميل شقيقي في جامعة النجاح الوطنية، وكانا من المفترض أن يتقدما سويًا لإمتحان إحدى المساقات الأسبوع الذي يلي عملية عاصم، لكن عاصم لم يتقدم للإمتحان، ولأدري إن تقدم شقيقي للإمتحان أيضًا، أم أنه تم تأجيله بسبب استشهاد أحد المتقدمين له، بالمجمل حينها كانت العمليات كثيرة والشهداء كثر، فلا أعتقد أن إدارة الجامعة كانت تسمح بتعليق الدوام كلما ارتقى شهيد.
في تلك الحقبة من الأحداث كنت طفلًا، وعند مشاهدتي للأخبار ووصايا الشهداء المصورة، كنت اتساءل دومًا، عن كيفية إيصال هذه الفيديوهات المصورة للقنوات الفضائية، لتصل إلى بيوتنا جميعًا في النهاية، وكانت الأفكار تأخذني إلى سؤال آخر، وهو لماذا لا تراقب قوات الاحتلال، مكاتب الفضائيات ووسائل الإعلام لتعرف من يحضر هذه المواد إليها، ومن ثم تعتقله لتصل من خلاله إلى المنفذين؟!
أفكارٌ بسيطةٌ ساذجةٌ لطفلٍ لم يتجاوز العاشرة حينها، ولم يكن يعرف التقدم المهول الذي سيحدث فيما بعد، فقد مرت السنين سريعًا، ودرست الصحافة، وبدأت بممارستها، في ظل تطورٍ تكنولوجي كبير، وظهور مواقعٍ للتواصل الإجتماعي، جعلت من كل مواطنٍ صحفي، وجعلت الصحفي كسولًا يعتمد على روايات الاحتلال، والثرثرة "خراريف الطوابين" في صياغة خبره، وجعلت من البعض يتسلل إلى قلوب الشهداء، ليقرر نيابة عن الشهيد، إن كان قد خرج فعلًا بنية تنفيذ عملية، أم أن الاحتلال أعدمه.
بالأمس فقط عادت بي الذاكرة إلى تلك المنطقة من التاريخ، حينما سمعت نبأ استشهاد صديقي بلال غانم، الذي كنت أحوال جاهدًا إقناعه بتغيير تخصصه الجامعي من الدراسات الإسلامية، إلى الصحافة والإعلام، لكن لم أفلح في ذلك.
وسائل الإعلام جعلت من بلال شهيدًا يوم أمس، لكني وجدته مصابًا على الصفحات الأولى للصحف صباح اليوم، تلقيت خبر بلال، كما تلقى شقيقي خبر استشهاد عاصم قبل 14 عامًا، لكن شهيد انتفاضة الأقصى، كان يدخل كل بيت معلنًا شهادته، منشدًا مقولة الشاعر الفلسسطيني محمود درويش "لا تذكروا بعدنا إلا الحياة"، بينما مصاب اليوم، ندخل كلنا في قلب أمه وأحبته لنشعل النيران..