لم أحبّ مدينة بئر-السبع. دائمًا كانت لدي كامرأة تصطنع الشهوة. مدينة بلا رائحة ولا أنوثة. في كل مرّة دخلتها، أو عبرت منها، أحسست أنها تليق أكثر بالخسارة وبالمقابر، أو كساحات لمعارك، كتلك التي في قصص الصحاري والرمال.
بئر السبع كانت طريقنا في أواخر الثمانينات حين سرت قوافل المحامين لتنهب الرمل قبل ساعات الفجر وصولًا إلى سجن "أنصار" النقب. لسنوات أنهكتنا المسافات والشمس. آلاف من أبناء فلسطين نقلوا إلى حيث الهباء والضياع، رمال تحوّلت إلى نصّ جديد في نصوص ملحمة الخيام واللهب. ترافعنا عنهم، أنا ورفاقي من المحامين في تلك المسيرة، وحاولنا أن لا يبقوا أرقامًا في سفر القمع الاحتلالي الإسرائيلي. منها عبرنا ومنها عدنا بالخيبات والوجع. في الذاكرة أبقت تلك المدينة عتمة، وربما تذكارات لهزائم ما زالت تتتابع على وقع مقام "النكبة".
كان الهواء ساخنًا. في الجو رياح كأنّها مراسيل غضب. صباحات القدس، في العادة، طريّة ومنعشة، لكنّ صباح الأحد الماضي لاءم ما وصفت رواية وكتب، عندما انشقّت سماء وأرض وقام من بين الأموات من داس الموت بالموت ليصعد الى السماء فاديًا كل البشر من الخطيئة. كان الجو خماسينيًا مزعجًا عن غير قصد، تمامًا كما يليق بالحكايا الكبيرة التي رحل أبطالها وتركوا وراءهم ميراثًا سيكون ويبقى ككل ميراث: مدعاة لقتالات بني البشر، طامعين وشرهين، وإخوة أعداء.
بدأت رحلتي مبكّرًا قاصدًا تلك المدينة التي لم تكن يومًا عذراء. مستشفى "سوروكا" وجهتي، حيث يرقد ابن فلسطين ويعاني على طريق آلامه من طعنة الجند، خطاة العصر، يسقونه الخلّ والحنظل. كأنني على شوك، أسرع كي أصل عند ميسرة أبو حمدية، الذي أخاله هناك يصرخ: لماذا تتركوني هنا وحيدًا؟!
في البهو الرئيسي لمبنى حديث يزيد المكان بشاعة، كحنّاء على وجه قردة، ينتصب تمثال كبير لرأس "بن غوريون". تمرّ أمامه وتشعر كأنّك تمرُّ من أمام نافورة تبقبق غطرسة وشماتةً. في كل مرّة أمرُّ من هناك، أحاول أن لا ألتفتَ لموضع الوجع ولكن تبقى الجروح، دومًا، نضّاحة.
لم أجد ميسرة في غرفته في قسم الأمراض السرطانية. خفت، ففي زيارتي السابقة عرفت أن المرض قد تمكّن منه. وجهه كان كوجه من فارقتُ من أحبّائي قبل أن سلّموا الوديعة ورحلوا.
كان في غرفة العلاج الكيماوي. من بعيد لونه كالليمون. صرخت ببعض الكلام. اعترضني ثلاثة يشبهون ألواح الخشب. صرخوا بوجهي، حجبوا عني الرؤية ومنعوني من الوصول إليه. سمعت عنّته من بعيد. تيقّنت أنه على قيد الحياة وبدأت معركتي معهم. كانوا كجند ذلك الزمان، غلاظًا قساة، عقولهم في نعالهم ولا يجيدون من اللغات إلّا لغة المطارق والرماح.
أعيد ميسرة إلى غرفته. بعد عراك، نجحت بالدخول عنده والجلوس بجانبه. رفع نصفه العلوي واتكأ بظهره على السرير فصار شموخه أمامي أكمل. على وجهه بسمة ذلك الرجل الشجاع. بسمة مليئة بالدفء والوقار وتخفي كثيرًا من ألم. تحدّثت ناقلًا ما في جعبتي من أخبار وقلق عليه وصلاة لشفائه وعودته إلى عرينه سالمًا معافى. سأل وتساءل وكان يعرف عن وضعه ما أعرفه وأكثر، فالطعنة في خاصرته والخلّ يملأ صدره والطريق وصلت إلى محطتها الأخيرة. كان صوته خافتًا. المرض أصاب، أوّل ما أصاب، مريئه. تحدّث ببطء ولكن بكبرياء مناضل. طلب أن أنقل السلام لأهله وتمنى أن يرى أحبّته هناك. حمّلني التحية لكل من وقف إلى جانبه ومع قضية أسرى فلسطين. بعزة عاشق عبّر عن شوقه لتراب الوطن، وبفرح عصفور حلّق على جناح أمل وأمنية أن لا يطول بقاؤه في المستشفى، فهو مشتاق ليعود إلى رفاقه في السجن، شركائه في الهم والحلم.
كانت ذراعه اليسرى مربوطة بطرف السرير وكذلك كانت ساقه اليمنى. صرخت بـ"ألواح الخشب"، ليزيلوا تلك الأصفاد. بهدوء قائد وكبريائه، طلب أن أكفَّ عن مخاطبتهم ومطالبتي إياهم. أعادني بسرعة إلى حديثنا، حيث يجيد هو لغة الحب والأمل، وأجيد أنا الإصغاء "لما يقوله الغبار للسرو". بانت على وجهه علامات التعب. نصحته بأن يحاول النوم فما تعرّض له كان ثقيلًا ومنهكًا، بعد مكابرة اعترف بأنه يشعر بآلام شديدة. طلبت من الممرضة أن تسقيه بعض المسكن. قبل أن ينام أخذ بيدي وبقلبه ضغط وقال: سلّم على جميع الأحبة، أنتظرك يوم الثلاثاء.
عائدًا، مررتُ في ذلك البهو، ميسرة في سريره ينام بهدوء مناضل ويحلم كعاشق. بجانبه ثلاثة جرّدوا من آدميتهم وتحوّلوا إلى بلطات متحرّكة. أركب سيارتي. فيروز في فصحها تصلي "اليوم علِّق على خشبة". وجه قلب ميسرة في راحتي. صوته يغلب صوت فيروز ويملأ الفضاء: أترك هؤلاء المخلوقات لا تطلب منهم فك تلك الأصفاد. كأنه يقول لي أتركهم، هذه الأصفاد مفاتيح عزتنا ونياشين كراماتنا، أتركها فهي سروجنا للعلا ومراكبنا للغيم والسماء، أتركها أقفالًا على ضمائرهم ووصمات عار ستبقى على جبينهم.
أغادر تلك المدينة التي لا أحب. أبتعد في الرمل. فيروز تنهي صلاتها. لتعلن أن هذا هو يوم عظيم لأن الحكمة دومًا تكون مع من يسير على درب الآلام.
أبتعد عن مكان الخسارة، وأترك ميسرة نائمًا على الغيم، كم كنتَ حكيمًا يا عزيز. لك المجد والعزة ولهم العار والذلة، ولي وعدي لك أن نلتقي في ثلاثاء حتمًا ستأتي.