عقارب الساعة عانقت بعضها بعضاً منذ ساعة ونصف، والسكون يلف المكان مقبّلاً الليل، لا سيارات في الشوارع كما كُنت أرى نابلس في الأشهر السابقة، يبدو أن الشباب قد غرقوا في سباتهم باكراً على غير العادة، فعلى طول شارع رفيديا الأرصفة تفتقد السيّارات وحتى الشارع نفسه بات خالياً تلك الليلة، في تلك الليلة حتى شباب الـ"Draft" الذين كنا نرى سياراتهم اختفوا.
لم أرَ رفاقي على مقاعد الدراسة الجامعية منذ عدة أشهر، فقررتُ الخروج برفقة بعض الأصدقاء في جولةٍ ليليةٍ عادية بمدينة نابلس، لكسر روتين السهر والسمر في الشقق السكنية التي تشبه "علب الكبريت"، على أية حال ابتعنا بعض الحاجيات والتسالي وانطلقنا نجوب المدينة.
الشوارع بدت خاليةً، ولا أذكر أن سيارةً واحدة لمحناها خلال جولة الربع ساعة، وما أن وصلنا إلى قرب الحرم الجديد لجامعة النجاح حتى اعترضتنا سيّارة فجأة، وأخذت تسير بمحاذاتنا ببطء، وترجل الأربعة منها.
- صباح الخير شباب، شو بتعملو هون؟
- طالعين طشّة، شباب وسهرانين عادي
- لو سمحتو إنزلو من السيارة وهوياتكم.
"ترجلنا من السيّارة وكل شيء على ما يرام، واتبعنا القواعد طبعاً كما تتم في مثل هذه الحالات، فمن العار أن نمتثل لأوامر جندي من رمم الفلاشا في جيش الاحتلال، ولا نمتثل لهؤلاء الأقرب علينا"!.
- أحدهم لصديقنا السائق: ماذا كنت تفعل في الحي الفلاني قبل 10 دقائق؟!.
- السائق: كنت أشحن بطاقة الكهرباء "الدفع المسبق" لبيت العائلة، وتوجهت برفقة أصدقائي هؤلاء في جولة للشوارع ثم سنسهر قليلا ونعود كلٌ إلى منزله.
"منذ اللحظة الأولى شخصياً عرفتُ هوية الرجال الأربعة بشكل عام، رغم أن لوحة تسجيل السيّارة لا تدل على الأرقام المعروفة لسيّارات الأجهزة الأمنية الفلسطينية، لكن أضواء السيّارة الأمامية وطريقة كلام الرجال معنا كانت كفيلةً بفهمنا السريع لكل ما يجري".
كنتُ متفاجئاً لأنني لم أصادف مثل هذا الموقف في مدينة نابلس خلال دراستي فيها نحو خمس سنين، لكن رغم المفاجأة أدركتُ كل شيء بسرعة، أما أصدقائي فلم يكونوا متفاجئين كثيراً فقد مرّ عليهم الموقف قبل ذلك دون علمي.
بعد سينٍ وجيمٍ وأخذٍ ورد حول الهدف من وجودنا بمدينة نابلس، وأثناء تفتيش سيّارة صديقنا، همس أحد الرجال لنا:"لا تقلقوا شباب إجراءات عادية"، أصدقائي ورابعهم لم يقلقوا على العكس تماماً عندما انتهى كل شيء، كانت الكلمات التي قالها الجميع من خلف هؤلاء الرجال هي:"والله كل الاحترام"!.
بعد ساعاتٍ فهمنا الحكاية الكاملة، حيث ضبطت إدارة مكافحة المخدرات في الشرطة الفلسطينية بمدينة نابلس أكثر من 1100 شتلة مارغوانا فوق سطح منزلٍ بالمنطقة الشرقية من المدينة، وتسارعت وتيرة الأنباء يومياً حول إلقاء القبض على مروجين ومتعاطين للمخدرات في المدينة.
ما أحوج مجتمعنا وشارعنا الفلسطيني لمثل هذه الجولات التفقدية المفاجئة، وما أرقى تلك الأم أو ذلك الوالد الذي يوقظه ضميره الحي وينتصر على مشاعر الأبوة والأمومة الزائفة، فيسلّم الأهل إبنهم متعاطي المخدرات أو مروجها ليد العدالة والقانون، وبهذا يكتبون انتصار مشاعر الأبوة والأمومة الصادقة عبر إنقاذ ولدهم من الهلاك ونفق المخدرات المظلم الذي قد لا يكون له نهاية!.
جنود ليلة يونيو المجهولين: أوقفونا متى شئتم وكيفما تشاؤون، لتوقفوا الساقطين من تجار المخدرات المرّوجين لأشكالها بأي طريقةٍ شاؤوا، أوقفونا لدقائق بل لساعاتٍ لتمنعوا توقف أحلام شبابنا الجميلة ربما لسنوات.