لا يمكن أن تستمر مهزلة الانقسام الفلسطيني إلى ما لا نهاية، فإما أن يتم تحديد جدول زمني لحوار يحضره شهود من جميع الفصائل، وإما الذهاب مباشرة إلى الانتخابات لتحكيم الصناديق، فلا يمكن أن يظل كلا الجانبين يتسلح بذخائر التصريحات والتصريحات المضادة، ولا يمكن أن تظل عقيدة بعض الأحزاب "أن الله لم يهدِ سواه"، أو أنه الأوّلى بالقيادة بناء على تاريخ طويل من الحكم.
لقد بات من المسلم به أن المواطن في قطاع غزة لا يهمه من المتسبب بالانقسام، أو من المخطئ ولماذا أخطأ، المواطن لا يهمه الآن سوى إمداده بأسباب الحياة التي هي على وشك النفاد، فقد أحاطت الهموم اليومية المتزايدة والأزمات المتتالية بالمواطن إحاطة السوار بالمعصم، أنهكت قواه مهمة البحث عن لقمة العيش والاستظلال بحائط عند وقت اشتداد لظى أيام الصيف، والحصول على أعلى مبتغ يشمل نظام جدول كهرباء، يضمن له ثماني ساعات يوميًا.
هذا الانقسام أخذ أشكالًا مؤسساتية وفكرية وجغرافية لعدة سنوات، ليس من السهل العودة الكريمة للسلطة الفلسطينية كما كانت بين عشية وضحاها، ويجب على العنوان العريض المتمثل في السلطة الفلسطينية - منظمة التحرير-، والتي لها شرعية دولية وتتلقى الأموال بشكل منتظم، أن تحتوي الفئات جميعًا في قطاع غزة، مهما كانت مشاربهم السابقة واختلاف أيدلوجياتهم، وعدم محاربة جزء من نسيج المجتمع.
تهللت أسارير الشعب بتوقيع "اتفاق الشاطئ" الموقع في 23 أبريل 2014، في منزل نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في مخيم الشاطئ، غرب مدينة غزة، وتشكيل حكومة وفاق، ولكن هذا الشعب الذي يفتقد ممارسة أي تأثير على قياداته المختلفة تحطمت آماله على صخرة القرار السياسي لدى الرئاسة، وتبين أن هذه الحكومة لم تكن سوى أداة فقط لا تملك سلطة القرار.
يجب على السلطة أن تخطو خطوات تتلاءم مع مكانتها، وتبتعد عن شخصنة المواضيع، وعدم الالتفات لبعض قيادات حماس التي قد تأتي أحيانًا بعض تصريحاتهم بشكل توتيري، وخاصة أن السلطة تغطي نفقات رواتب موظفيها من الضرائب التي تتحصل عليها من غزة، وإذا كانت حكومة الوفاق ممنوعة من ممارسة صلاحياتها في غزة، فلماذا تستمر في عملها؟ ولماذا تطلب التمديد؟ ولماذا تعقد جلساتها الأسبوعية وتحضر المؤتمرات الدولية الخاصة بمساعدة غزة ماليًا؟ ولماذا تطالب الدول المانحة بالإيفاء؟
فمن المعروف أن حركة حماس الآن تعاني من عدة أزمات منها (الحصار، مواقف الدول الإقليمية، أزمة مالية، إلخ...) فإذا لم تتقدم السلطة الفلسطينية بإتمام المصالحة وإشراك حماس بشكل حقيقي، فإن المتغيرات الإقليمية قد تتغير بوتيرة سريعة ومفاجئة، وتأتي في غير صالح السلطة الفلسطينية، فإنها الآن فرصة للسلطة لكي تنجح على الصعيد الداخلي، في ضوء فشل المفاوضات وتراجع الحالة الفلسطينية.
فقد مرت سنة، ولا أقول عامًا، لأن مفهوم "العام" يحمل معان إيجابية تتضمن الخير والسعادة والنجاح، بينما مفهوم "سنة" يحمل معان عكسية، وهذا ما تحقق في غزة، بعد هذه السنة من وجود هذه الحكومة، الأزمات لم تراوح مكانها، معدلات الفقر زادت، البطالة تضاعفت، عملية الإعمار تعطلت وتضرر آلاف المواطنين، ومعبر رفح مغلق، وفقد كثير من الطلاب فرصهم في إتمام تعليمهم في الخارج، مات الكثير من المرضى والجرحى بسبب عدم التمكن من السفر للعلاج في الخارج، خسر الكثير فرص عملهم في الخارج، 40 ألف موظفًا تابعين لحكومة غزة السابقة لم يتقاضوا رواتب منذ أكثر من سنة ونصف، وكالة اللاجئين تقلل الدعم لفئات كثيرة فقيرة، المخيمات الفلسطينية في الخارج شهدت تشتتًا أكثر، وأصبح فلسطينيو الشتات بدون مأوى ومأكل وملبس.
كثير من الأزمات تضرب بشدة المجتمع في غزة مما يجعله أقرب للانفجار، ولكن تجاه من؟ تجاه نفسه بالتأكيد، وليس تجاه حماس أو السلطة، فحماس في غزة قوية ومنيعة كما جاء في اعترافات وتصريحات كبار القادة الأمنيين والعسكريين الإسرائيليين، والسلطة بعيدة جغرافيًا عن غزة ومنفتحة على العالم ولا يهمها أمر غزة، والخاسر الأكبر هو المواطن والقضية الفلسطينية نفسها، والتي تراجعت كثيرًا بسبب هذا الانقسام.
إن عملية إتمام المصالحة لا تحتاج إلى مكة 2، أو اتفاق جديد أو رعاية أجنبية، الأمر محصور في ثلة من الشخصيات الفلسطينية، التي هي نفسها من يعطل إتمام المصالحة لتعارضها ومصالحها الشخصية، الوقت يمضي، وتمضي معه فرصنا في تحقيق مكاسب ضد الاحتلال.
كفى حصارًا وتجويعًا وعقابًا لقطاع غزة، فلو لم تفعل غزة غير الصمود أمام هجمات الاحتلال لكفاها.
فهمي شراب - نون بوست