في الشهر التاسع من العام 2000، عندما ساد الأحمر تراب فلسطين، وامتلأت سماؤها بأرواح الشهداء العائدين لربهم، وكانت لحومنا تتمزق أشلاءً بجنون الرصاص، وقلوبنا وحناجرنا تنشق وهي تنادي: "وينكم يا عرب؟!"، رغم وعينا التام أننا نصرخُ على أصنامٍ هامدة، وربما كان صراخنا من باب التمني كالطفل اللقيط الذي يصرخ استنجاداً بأمه.
كانت ولازالت قذائفٌ بالأطنان تتساقط فوق أجساد أطفالنا العارية لتسلبهم كل شيءٍ حتى بكائهم، ولم تَجِفّ جروحنا ولازالت حروقنا ساخنة، وأما تلك الطفلة فلم تَع حتى الآن أن ذراعها المبتورةَ التي ستمنو من جديد، ليست سوى كذبةٍ من جراحٍ لم يدرِ كيف يُطيب جراح قلبها، وكما تكدّست أزقّة مخيم جنين بركامٍ من اللحم، تكدّست أزقّة اليرموك بجبالٍ من العظام بعد أن سلب الجوع الأخضر واليابس، ولم تدع البراميل المتفجرة والقذائف ورصاص القناصة رخيصاً أو نفيساً إلا وزال.
وكما كنا قبل عقدٍ ونصف نشتم الشعوب والجيوش والزعماء، فقد أصابنا نفس الوباء، وأضحينا أصناماً صمّاء، همها التسوّق أو الرقص والغناء في وقت الرخاء، لتنهمر علينا النقمات والشتائم من إخوةٍ لنا تفاجؤوا بالمدافع والدبابات التي وعدتهم ألا تخذلهم، وهي تمطرهم بالموت، وببساطيرٍ قال أصحابها إنها لن تُخلع حتى تدوس أرضهم وتحررها، ولكنها ما لبثت حتى داست رؤوسهم، ليجدونا أيضاً في بهو النيام كغيرهم دون أن نعطيهم أدنى انتباه.
كما أسقطنا العالم من أعيننا فقد سقطنا أيضاً من أعين من أصبحنا نخجل من أن نعترف بأننا إخوتهم، والذين لم يتبقى لهم سوى أملٍ وحيد، وهو أن تُطبِق كلاب العالم أنيابها بسرعةٍ عليهم دون أن تؤلمهم، رغم أن جفوننا وهي تغلق بصرنا عليهم كانت أكثر ألماً من عضّ الأنياب، وفي كلّ الأحوال فاليرموك وأهله ليسوا بحاجةٍ إلى صندوقٍ للزيت والمعلبات من منظمةٍ دولية، أو وساطةٍ دبلوماسية لنقل بعض الجرحى والمعونات الطبية كي ينتصر، فإن اليرموك هو المنتصر شئتم أم أبيتم، لأن النصر فقط من عند الله، والله معهم.