شبكة قدس الإخبارية

لعنة جنين!

عبدالقادر عقل

حشد شاؤول موفاز ومن خلفه أريئيل شارون نخبة ألويته ووحدات جيشه المُختارة، وتبجح الاحتلال بجبروت آلته العسكرية، مُستغلاً حصار الرئيس ياسر عرفات وتقطع أوصال الضفة الغربية.

الهدف: رأس المخيم الذي تبلغ مساحته كيلو متراً واحداً مربع فقط، تخيلوا المساحة قبل البدء باستعراض ميزان القوى -إن صح التعبير- داخل أزقة مخيم جنين الصغير مساحةً والكبير بطولةً، لا ألوية ولا سرايا ولا فرق نظامية للقتال، قاذف آربي جي واحد فقط، و150 مقاتلاً متسلحين ببنادق إم16 الأمريكية وكلاشنكوف، أكواع متفجرة مصنعة محليا وزجاجات حارقة، إضافة لعبوات ناسفة مصنعة محليا "الأكواع"، وحشد من أهالي المخيم العزل بلا سلاح، هذه هي ترسانة الفلسطينيين في معركة مخيم جنين.

أما جيش الاحتلال - أقوى جيش في الشرق الأوسط - فقد حشد التالي للمخيم: 200 دبابة ميركافا لمحافظة جنين منها 100 مخصصة لمخيم جنين وحده، ألف جندي تقريبا، وفرقة كاملة من أصل 4 فرق عسكرية في كامل الضفة، 20 جرافة عملاقة تقريبا، إضافة لوحدات نخبة الجيش مثل "جفعاتي" "جولاني" "ايجوز"، كما يتم استبدال الجنود يومياً، وكل جندي مزود بكافة وسائل الراحة والأمن والاتصال والغذاء، ولا تنسوا فوق كل ذلك الطائرات الحربية التي لا يذكر أهالي مخيم جنين عددها، ولكنني أعرف أن المخيم كان يتلقى خلال ساعة واحدة 12 صاروخا من السماء تطلقها "الأباتشي" و"الكوبرا" التي تناوبت على قصف المخيم، بعبارة أخرى "كل ما تمر ساعة بكون نازل على كيلو مربع واحد 12 صاروخ من السما".

هذا ميزان القوى بين الجانبين، من يتخيل حجم ما حشد الجيش للمخيم، سيقول: سيصبح المخيم أرضا محروقه في بضع ساعات، وسيسقط المخيم وينتهي كل شيء، لكن المخيم صمد 9 أيام، رغم عظم المأساة وعمق الجراح، ولم يسقط رأسه كما أراد موفاز الذي اشرف على العملية بنفسه وكان وزيرا للحرب آنذاك، حيث وقف على قمة جبل الجابريات مُتمعناً سر هذا المخيم ومُتعجباً من بأس مقاتليه.

 أمر آخر يمكن أن يلمحه المتفحص لثنايا ملحمة نيسان الخالدة، ألا وهي الوحدة الوطنية الحقيقية في الميدان، وهنا ستقفز إلى الأذهان أسماء رجالِ كانوا بحق نخبةً وقادة النخبة بلا تدريبٍ واسع وبإمكانيات ذاتية، فهناك يوسف قبها أبو جندل قاهر الدبابات، وصاحب "الآر بي جي" اليتيم في المخيم، وليس غريباً على أبو جندل أن يقود معركة الوحدة الوطنية بكل وعيٍ واقتدار، كيف لا وهو الذي رفض مصافحة الضابط الإسرائيلي قبل اندلاع الانتفاضة، حيث قال للضابط "لا، إنت إيدك نجسة، أنا ما بسلم عليك".

وفي ذات الواقعة تذرع جيش الاحتلال بإلقاء شبّان للحجارة، فرد عليهم أبو جندل ساخرًا من حشدهم لكل هذا العدد من الجنود، قائلاً: "أنا عسكري مثلك، واحنا هون ما حد رمى حجار، إذا بطخ طلقة، طلقة، أنا برد بـ 100، بـ 100 برد"!، أما محمود طوالبة مهندس الاستشهاديين، فقد أبدع أيضًا في قيادة دفة سفينة المُقاتلين برفقة خيرة القادة أبو جندل، وزياد العامر، والشيخ جمال أبو الهيجاء، والقائد جمال حويل، والصفوري والمرداوي، وغيرهم من الأحياء عند ربهم، والأحياء في أرضه.

في خضم معمعة المعركة اتصل الأمين العام للجهاد الاسلامي بقائد سرايا القدس الشهيد محمود طوالبة محاولاً إقناع الأخير بأن الحرب كرُ وفر، فرد عليه قائلاً أن الملتقى في الجنة إن شاء الله.

معركة مخيم جنين شكلت علامة فارقة في مسيرة الكفاح الفلسطيني الحديث، ومن ينظر بعينٍ واحدة فحسب، ليُحصي عدد الشهداء وللمجازر فقط فهو مخطئ. ففي أي عام لم يذبح شعبنا؟! سواء قاتل أم لم يقاتل هو يُقتل وتُرتكب بحقه المجازر على مدار عقودٍ خلت.

الآن حتى مُضِي أعوامٍ طويلة على ملحمة نيسان، ربما جنود وحدة الاقتحام الخاصة "إيجوز" ((من وحدات النخبة القتالية)) لن يصدقوا يوما ما أن مفرقعات الاطفال في العيد، كانت تجعلهم يرتعدون خوفا عندما تنطلق تباعا داخل ازقة المخيم خلال المعركة .

إنها لعنة جنين يا سادة على مر الأزمنة والعصور تُلاحق كل محتلٍ لأرض بيت المقدس، ففي الثلاثينات ثار القسام من أحراش يعبد، وفي الأربعينات سحق الجيش العراقي الباسل العصابات الصهيونية في جنين، ومقبرة شهداء الجيش العراقي لا تزال شاهدا حياً على ذلك، وجاءت معركة نيسان لتكون بمثابة معركة الكرامة الثانية التي حطمت أسطورة الجيش الذي لا يقهر.