شبكة قدس الإخبارية

الحياة بعد الفايسبوك: لكي تنبض قلوبنا مجدّداً (10)

هيئة التحرير
السؤال الطبيعي الذي يفرض نفسه حين نتحدّث عن سلبيّات الفايسبوك هو: ما هو البديل؟ والمقصود عادة عند الحديث عن بديل في هذا السياق أن يكون هذا البديل افتراضي-الكتروني مثل الفايسبوك، مثل عندما يقترح البعض استخدام مواقع اجتماعية أخرى تحترم المعلومات الشخصية بشكل أكبر أو تلك التي تحوي تعقيدات تكنولوجية أقلّ. لكن الاقتناع بضرورة وجود بديل الكتروني للفايسبوك يدلّ على وجود مشكلة: فهل أصبحنا معتمدين على الشبات الافتراضية لدرجة لم نعد فيها نستطيع تخيّل حياتنا من دونها؟ اتّكاليّتنا المتصاعدة على الشبكات الافتراضية لها في الواقع أسباب بنيوية عميقة، غير متعلّقة بالأفراد وتفضيلاتهم فحسب بل ببنية حضارتنا ككل. نحن اليوم مجتمعات مهاجرة ومشتّتة؛ مجتمعات مكوّنة من ملاين الأفراد اللذين يتنقلّون دائماً بين مكان وآخر، قلّة قليلة منّا اليوم تبقى في مكان واحد لفترة طويلة. معظمنا ننشأ في مكان ما، نتعلّم في مكان آخر ثم نتخرّج من الجامعة لنعمل في مكان ثالث، وقد نستقرّ أيضاً في مكان رابع بعد حين على قارّة أخرى. الهجرة الجغرافية ترافقنا من ولادتنا حتى مماتنا، والنتيجة هي أن جذورنا لا تنبت في الأماكن التي نستقرّ فيها: حياتنا الاجتماعيّة متبدّلة، متوتّرة، غير مستقرّة، وأحياناً يشوبها الكثير من السطحيّة. في ظلّ هذا الواقع من الطبيعي أن تنمو اتّكاليتنا على الشبكات الافتراضية لأنها تسمح لنا بالشعور بحدّ أدنى من الاستقرار في العلاقات. الوتيرة المرهقة والسريعة للعمل والدراسة في زمننا، والكلفة المتصاعدة للقيام بأي نشاط اجتماعي (أي لقاء اجتماعي اليوم يكلّف الكثير من المال، خاصة إن كان خارج المنزل) هي أيضاً عوامل إضافيّة تجعل من الفايسبوك بديلاً مقنعاً عن الحياة الاجتماعية الحقيقيّة. في كل الأحوال، الخسارة في حياتنا الاجتماعية هي نفسها، العلاقات القديمة التي تعيش على الإحياء الصناعي للفايسبوك تأخذ المساحة والطاقة التي من المفترض أن نخصّصها لإنشاء علاقات جديدة في مكان سكننا الجديد، والليالي التي نقضيها على الفايسبوك بدلاً من التسكّع مع الأصدقاء لا تشعرنا سوى بالمزيد من الوحدة. لذلك حين نتكلّم عن بديل للفايسبوك، من غير المنطقي أن يكون بحثنا متمحورٌ حول بديل افتراضي آخر لأن ذلك لا يحلّ المشكلة. جيلنا اليوم لا يحتاج إلى بدائل الكترونية للعلاقات الاجتماعية، يحتاج في الواقع إلى بدائل اجتماعية للعلاقات الالكترونية. لكن كيف يمكن إيجاد بديل إن كان معظم أبناء جيلنا متواجدون أونلاين حصراً؟ الجواب ليس سهلاً. البدائل الاجتماعية موجودة، لكنها ليست ببساطة نقرة زرّ أو حجب صديق، العلاقات الاجتماعية الحقيقية تتطلّب وقتاً وجهداً وصدقاً واهتماماً لكي تنمو وتستمرّ وليست بالبساطة التي يعوّدنا عليها الفايسبوك. البدائل الطبيعية هي الحواضن الاجتماعية التي توافرت لكلّ الناس قبل وجود الفايسبوك. بعض النصائح المتواضعة التي يمكن أن نساهم بها في هذا المجال هي: - الحفاظ على العلاقات العائلية هو الخطوة الأولى، مهما كنّا مختلفين كأشخاص عن عائلاتنا. الصلات العائليّة هي الوعاء الاجتماعي الأوّل لنا. من الضروري أن نتصالح مع عائلاتنا في زمن التمزّق. - تعزيز العلاقات المباشرة مع الأصدقاء في محيطنا الجغرافي القريب، سواء أصدقائنا في العمل، الدراسة أو الهواية. تسكّعوا معاً بدل أن تراسلوا بعضكم البعض على الفايسبوك. - النقطة الثالثة التي سأذكرها هنا تحتاج للقليل من الشرح لأن لا أحد ينتبه لها اليوم: النوادي الاجتماعيّة. منذ وقت غير بعيد، كان هنالك الكثير من الروابط الاجتماعية غير العائلية المنتشرة في المجتمع مثل الجمعيّات والنوادي والأحزاب. كانت هذه المنظّمات تشكّل حاضن اجتماعي للجميع. في لبنان مثلاً، لم يكن هنالك من قرية تخلو من نادٍ أو أخوية ما، لم يكن هنالك جامعة لا تعجّ بالجمعيّات، ولم يكن هنالك أحد تقريباً لا ينتمي لنادٍ رياضي، اجتماعي، سياسي، نقابي، عائلي أو حرفي أو فنّي أو متعلّق بالهوايات والاهتمامات المختلفة. قد يقول أحدهم اليوم أن مجموعات الفايسبوك هي البديل الالكتروني للنوادي التقليدية، لكن الفرق بين الاثنين شاسع. فنحن حين ندخل إلى مجموعة على الفايسبوك اليوم، قد نتعرّف على ألف شخص يشاطرنا الاهتمام نفسه لكن قد لا نخرج من الألف بصديق واحد، أمّا في الجمعيات المحليّة فقد نتعرّف على عشرة فقط ونخرج بخمسة أصدقاء منهم. وسبب هذا الاختلاف بسيط: الخبز والملح – المشاركة الحياتيّة – بين الناس هي التي تصنع الصداقات، لا اللايكات والتعليقات. حيث نشأت، كان تلك الروابط الاجتماعية لا تزال فاعلة، خاصة النادي الرياضي الذي شكّل الحاضن الاجتماعي لأصدقائي ولي. كان الجميع يعرف الجميع، وكانت حياتنا الاجتماعيّة غنيّة وجميلة رغم أن القرية صغيرة وعدد سكّانها قليل، أصغر من حجم أي مجموعة على الفايسبوك. اليوم لا يوجد نادي أو جمعيّة هناك، معظم شباب القرية يجلسون أمام شاشاتهم وحيدين، لا يلتقون يومياً في الملعب أو النادي كما كنّا نفعل، لا يتحدّون أنفسهم سوى بالألعاب الالكترونية والنقاشات السياسيّة العقيمة، لا ينظّمون المهرجانات والدورات، لا يتسلّقون الجبل القريب في ساعات الصباح الأولى، وفي بعض الأحيان، لا يعرفون حتّى أسماء بعضهم البعض. أعتقد أن قريتي هي عيّنة عمّا حصل للكثير من الأماكن حول الكوكب، والدراسات تثبت ذلك. فمنذ ظهور الانترنت هنالك تراجع كبير في المشاركة الفعليّة في النوادي الرياضية والحرفية والاجتماعيّة والسياسية، وهذا الانخفاض في المشاركة ينعكس بشكل مباشر على العلاقات الاجتماعية التي لم يعد هنالك من شبكات متوافرة لنموّها وازدهارها. الخبر الجيّد هو أن هذه الروابط هي أجسام عضويّة طبيعيّة يمكن إنشاؤها وتنشيطها في أي وقت، هي لا تحتاج لاتصال بالانترنت، لا تحتاج لصور برّاقة، ولا تنتهي حين تنقطع الكهرباء. هنالك دائماً أحد من العائلة قربنا، هنالك دوماً أصدقاء، وهنالك خيار الانخراط في نادي، في مشروع ما، حتى ولو كان مجرّد رابطة مشجّعين. هذه البدائل لا تقتصر فائدتها على تنشيط الحياة الاجتماعية فحسب بل لها منافع نفسيّة وصحّية وبيئية واقتصادية وسياسية كبيرة على المجتمع. إن كنّا مقتنعين أن أثر الفايسبوك على حياتنا سلبيّ، فليس من المنطقي أن نبحث عن بدائل الكترونية، المسألة ليست في اسم ولون الموقع بل في الموقع بحدّ ذاته. وضع ابتسامة على الفايسبوك لا يحرّك أي عضلة في الجسم، أمّا الضحك مع الأصدقاء فيحرّك عضلات القلب واحدة واحدة… لكلّ هذه الأسباب، خلاصتنا الأخيرة لهذه السلسلة بسيطة جداً: فلنخرج من الشاشة ولنعُد إلى الحياة!

* * * [انتهت السلسلة]