شبكة قدس الإخبارية

لماذا تخشى "إسرائيل" من القضاء الدولي؟

هيئة التحرير

عبد الحسين شعبان: مع القرار الفلسطيني بالانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية وتوقيع فلسطين على 22 اتفاقية دولية، يكون الصراع العربي الإسرائيلي قد اتخذ بعدا جديدا على المستوى الدبلوماسي والدولي والقانوني والقضائي، وهو ميدان لم يستثمره جيدا الفلسطينيون والعرب قبل وبعد قيام إسرائيل في العام 1948، ولعل ذلك أول ما يخشاه الاحتلال.

مع هذه الخطوة تكون فلسطين قد اختارت أحد أقوى الأسلحة الدبلوماسية والقانونية، لكنه "سلاح ذو حدين" ينبغي استخدامه بصورة فعالة ومؤثرة، فإسرائيل رغم انسحابها من نظام روما الأساسي الذي أسس للمحكمة الجنائية الدولية بعد دخوله حيز التنفيذ عام 2002، هددت باستخدام أسلحة مماثلة، وكلفت مجموعة محامين دوليين متخصصين لدرء الخطر عنها، بل لاتهام السلطة الوطنية الفلسطينية بالإرهاب ومطالبتها بالتعويض المادي والمعنوي، وهو ما أقدمت عليه حين طالبتها بدفع مبلغ ثلاثة مليارات دولار بناء على قرار محكمة أميركي، بسبب أعمال وصفتها بالإرهابية للفترة بين 2002 و2004.

"حاولت إسرائيل وحليفتها الكبرى الولايات المتحدة وضع العصي في عجلة الفلسطينيين لمنعهم من السير في هذا الطريق لأنها تدرك مدى خطورته عليها" زوبعة إعلامية

وحتى لو افترضنا أن ذلك يستهدف إثارة زوبعة إعلامية أو قد يكون جزءا من خطة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لكسب المعركة الانتخابية، يكشف في الوقت نفسه عن رد فعل حقيقي إزاء الخطوة الفلسطينية بمقاضاة مرتكبي الجرائم الإسرائيليين، وهو ما دعا نتنياهو إلى شن هجوم ضد المحكمة الجنائية الدولية واتهمها بالنفاق مؤكدا عدم امتثال جنود "إسرائيل" لقرارات المحكمة، والأكثر من ذلك اتهم المحكمة بتشجيع الإرهاب الدولي لقرارها بقبول انضمام دولة فلسطين إلى المحكمة.

لقد حاولت "إسرائيل" وحليفتها الكبرى الولايات المتحدة وضع العصي في عجلة الفلسطينيين لمنعهم من السير في هذا الطريق لأنها تدرك مدى خطورته عليها، وقد اتصل نتنياهو بوزير الخارجية الأميركي جون كيري طالبا منه إحباط قرار المحكمة بالتحقيق بالاتهامات الموجهة إليها، إضافة إلى إلغاء حصة تمويلها. كما توجه بعض أعضاء الكونغرس الأميركي إلى العمل من أجل وقف المعونات الأميركية للسلطة الفلسطينية، وكانت إسرائيل قد اعترضت على كون فلسطين دولة. وإذا كانت كذلك، فغزة ليست جزءًا منها، لأنها تقع تحت سيطرة الإرهابيين، حسب تبريراتها.

وفي الوقت نفسه لوحت قوى عديدة بأن جلب إسرائيل إلى القضاء الدولي سيجلب معه حركة حماس أيضا بشأن ما قيل عن انتهاكات لقوانين الحرب، ولا سيما التعرض للسكان المدنيين، إضافة إلى قواعد القانوني الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف الأربعة للعام 1949 وملحقيها للعام 1977، وهما اللذان انبثقا عن المؤتمر الدبلوماسي المنعقد في جنيف للفترة بين العام 1974 و1977، الذي تمخض عن توقيع بروتوكولين الأول الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة، والثاني الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلّحة غير الدولية.

جدير بالذكر الإشارة إلى أن السلطة الوطنية الفلسطينية كانت قد طلبت من المحكمة الجنائية الدولية في العام 2009 إجراء تحقيق بشأن جرائم الحرب عقب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة (أواخر العام 2008 وأوائل العام 2009) وهو المعروف بعملية "الرصاص المصبوب"، ولكن المدعي العام في المحكمة في حينها لويس مورينو أوكامبو وبعد ثلاث سنوات قضاها في النظر بمعطيات الدعوى الفلسطينية، أعلن في العام 2012 أنه لا يمكن للمحكمة النظر في قضية من هذا النوع ما لم تقدّمها دولة معترف بها، وذلك قبل أن تصوّت الأمم المتحدة لصالح الاعتراف بفلسطين كدولة مراقب في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2012.

"القيادة الفلسطينية بعد أن يئست من احتمال إيجاد حل أو حتى أفق لحل قريب، لجأت إلى هذا الخيار، خصوصا أن المفاوضات التي استمرت لأكثر من عقد ونصف من الزمن وصلت إلى طريق مسدود"

طريق مسدود

قد يكون تأخر السلطة الفلسطينية بالانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية له ما يبرره، وذلك لحين توفر إجماع فلسطيني، ولهذا فإن قيادة الرئيس محمود عباس سعت للحصول على تواقيع جميع المنظمات والفصائل الفلسطينية المقاومة، بما فيها حركتا حماس والجهاد، وثانيا أن القيادة الفلسطينية بعد أن يئست من احتمال إيجاد حل أو حتى أفق لحل قريب، لجأت إلى هذا الخيار، خصوصا أن المفاوضات التي استمرت لأكثر من عقد ونصف من الزمان وصلت إلى طريق مسدود، إذْ كان يفترض انتهاء مرحلة الاتفاق النهائي في العام 1999 حسب اتفاق أوسلو العام 1993 وحلّ قضايا الدولة الوطنية الفلسطينية وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين ومشاكل المياه والحدود وغير ذلك.

لكن ذلك لم يتحقّق، الأمر الذي قاد إلى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في العام 2000، بعد أن كانت الانتفاضة الأولى قد بدأت في أواخر العام 1987، وامتدّت لعدّة سنوات ما قبل مفاوضات مدريد-أوسلو. وفي الفترة من العام 1999 حتى العام 2015 توالى على البيت الأبيض عدة رؤساء وعدوا بحل الدولتين (كلينتون في العام 1996) وجورج دبليو بوش في أواخر ولايته الثانية (العام 2006) وما بعدها، وأوباما الذي بدأ ولايته بخيار حل الدولتين 2009-2013، لكن "إسرائيل" رغم ذلك ازدادت تعنتا وعسفا مرتكبة مجازر جديدة بحق الشعب العربي الفلسطيني والأمة العربية، مثلما قامت بعدوان ضد جنوب لبنان (عدوان يوليو/تموز2006) وثلاثة اعتداءات على غزة في 2008-2009 (عملية الرصاص المصبوب) وفي العام 2012 (عملية عامود السحاب) وفي العام 2014 (عملية الجرف الصامد) وهي مستمرة في بناء المستوطنات، وكذلك في عملية تهويد القدس والاعتداء على المقدسات والآثار الفلسطينية.

لقد جاءت الخطوة الفلسطينية إثر رفض مجلس الأمن الدولي مشروع القرار الفلسطيني العربي، علما بأن هذا المشروع لا يستجيب لمعيار الحد الأدنى، ومع ذلك رفضه مجلس الأمن مثلما رفضته إسرائيل، وقد نصّ هذا المشروع على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية في فترة لا تزيد عن ثلاث سنوات، وستنتهي بنهاية العام 2017، كما دعا إلى اتفاق شامل بين الفلسطينيين والإسرائيليين في غضون عام.

"إسرائيل رفضت إجراء تحقيقات دولية مستقلة وإن وافقت على إجراء بعض التحقيقات الميدانية، لكنها سرعان ما أوقفتها"

تهرب

إن خلفية القرار الفلسطيني تستند إلى ارتفاع وتيرة المطالبة الدولية بالتحقيق في جرائم الحرب، خصوصا أن هناك بعض المنظمات الدولية قامت بتوثيق هذه الجرائم، كما نقلتها أيضا الشاشات الزرقاء مباشرة يوما بيوم وساعة بساعة، ولكن "إسرائيل" رفضت إجراء تحقيقات دولية مستقلة وإن وافقت على إجراء بعض التحقيقات الميدانية، لكنها سرعان ما أوقفتها، بل إنها رفضت التعاون مع المقرر الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967، ونتذكر كيف قامت باحتجاز ريتشارد فولك لمدة 30 ساعة في مطار اللد (مطار بن غوريون)، كما منعته من أداء مهمته في التحقيق، وهي بذلك لا ترفض الاعتراف بانتهاكاتها ضد الشعب الفلسطيني فحسب، بل إنها تزدري الأمم المتحدة وتتنكر لقواعد القانون الدولي الإنساني، وهو ما يلقي مسؤوليات جديدة على المجتمع الدولي، الذي من واجبه ملاحقة المنتهكين كي لا يفلتوا من العقاب باستخدام جميع الوسائل الممكنة لإرغامهم على الامتثال للعدالة، طبقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

إن انضمام فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية يلقي مسؤوليات جديدة على عاتق منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية لمتابعة ملف ملاحقة المرتكبين وتقديم دعاوى ضدهم، سواء عبر نظام المحكمة أو عبر القضاء الوطني، كما حصل في بلجيكا سابقا وفي إسبانيا ضد بن إليعازر (وزير الدفاع الأسبق) وفي بريطانيا حين تم ملاحقة تسيبي ليفني وزيرة الخارجية السابقة.

"إضافة إلى الانتهاكات المعروفة، هناك مسألة الاتجار بالأعضاء البشرية ومسألة جدار الفصل العنصري، ومحاولات قضم القدس وتغيير معالمها، وهناك أيضا تقرير غولدستون"

معركة طويلة

ولعلّ المعركة الدبلوماسية والقانونية ستكون طويلة، لكنها في الوقت نفسه ستصبح مؤرقة لإسرائيل، وإضافة إلى الانتهاكات المعروفة، هناك مسألة الاتجار بالأعضاء البشرية وهو ما تابعه وكتب عنه الصحفي السويدي بوستروم، مثلما هنالك مسألة الجدار الديمغرافي (جدار الفصل العنصري) الذي عدته محكمة العدل الدولية في لاهاي، في فتواها الاستشارية في يوليو/تموز 2004، أنه غير شرعي ولا بد من هدمه، إضافة إلى محاولات قضم القدس وتغيير معالمها، وهناك أيضا تقرير غولدستون الذي ينبغي متابعته بما فيها إدانة إسرائيل لخرقها قوانين الحرب، وهناك الجريمة التي ارتكبتها إسرائيل بحق المدنيين في قافلة الحرية، وهذه كلها قضايا متفرعة من القضية الأساسية التي تتعلق بحق تقرير المصير ومقاضاة "إسرائيل" على انتهاكاتها الجسيمة المستمرة منذ العام 1948 حتى اليوم.

إن خشية "إسرائيل" من القضاء الدولي تعود إلى أنه قد لا يكتفي بتجريمها على مخالفتها لقواعد القانون الدولي ولارتكابها جرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب وجرائم العدوان فحسب، بل إنه سيتعرض لعدم شرعية قيامها، خصوصا بعد تنكّرها لتعهداتها باحترام حقوق الإنسان، وهي التعهدات التي أعطتها ضمانة للاعتراف بها من جانب الأمم المتحدة، لكنها منذ ذلك التاريخ امتنعت عن تطبيق القرار 194 الصادر عام 1948 بخصوص حق العودة، وشنت حروبا على الأمة العربية بعد قضمها كل أراضي فلسطين في العام 1967، وقامت بضم القدس عام 1980 والجولان عام 1981 في تحد لقرارات مجلس الأمن.

كما أن خشية "إسرائيل" من القضاء الدولي تتعلق أيضا بعقيدتها السياسية التي تقوم على العنصرية حيث أدانت الأمم المتحدة قبل 40 عاما الصهيونية باعتبارها شكلا من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، ورغم إلغاء القرار 3379 الصادر في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 1975، وذلك في 16 ديسمبر/كانون الأول 1991، فإن ما تقوم به اليوم يزيد على كل ما قامت به في تاريخها، وقد ذهبت نحو 3000 منظمة حقوقية ومدنية في مؤتمر ديربن ضد العنصرية إلى دمغ سياستها بالعنصرية، وهذا بحد ذاته سبب كاف لرفضها الامتثال للقضاء الدولي ورفضها قبول فلسطين في المحكمة الجنائية الدولية.