شبكة قدس الإخبارية

سلطة الجداول الزمنيّة

عبّاد يحيى

تبدو نهاية العام ودنو آخر مناسبة حاضّة على التفكير. ومع أن التفكير والمراجعة والتخطيط، في هذه المناسبة، يتصل غالباً بالفرد وحياته الخاصة، إلا أنها مناسبة مهمة للتفكير، أيضاً، في "السلطة"، والسلطة، هنا، هي أي سلطة. ومن الطرافة أن "السلطة الفلسطينية" باتت اختصاراً "السلطة"، بكل ما يحمله هذا التطابق اللفظي من مفارقات هائلة. المهم أن التفكير في نهاية العام مصبوغ، دوماً، بتساؤلات عن الزمن، وهو الذي يمنح هذه الأيام الأهمية، ويجعلها نهاية شيء وبداية آخر. والتفكير في الزمن والسلطة لا يقل أهمية، فالسلطة تنظر إلى الزمن دوماً، كموضوع للتشكيل والإدارة والضبط.

لا شك أن "زمن السلطة" يختلف عن زمن الأفراد العاديين. وحين يكون الحديث عن السلطة الفلسطينية تتضح علاقة فريدة مع الزمن، تفرض نفسها على حياة الفلسطينيين ومستقبلهم، قوامها الأساسي تقطيع الزمن بمطّه، ومحاولة التحالف معه، حتى يغدو عنصر إلهاء للفلسطينيين، يحجب عنهم طرح الأسئلة الملحّة، ويفرض عليهم العيش وفق تقسيمات زمنية تتولاها السلطة.

ولعلّ التعبير الأهم عن هذه العلاقة الفريدة بين السلطة والزمن، هي الجداول الزمنية، أي تلك السنوات التي تضيفها السلطة، كل حين، كإطار زمني لمشاريعها السياسية واستراتيجياتها الوطنية. معروف أن كل دولة وحكومة وإدارة في هذه المنطقة من العالم تتقن وضع الجداول الزمنية للمشاريع الحيوية، في مجالات الاقتصاد والتنمية والسياسات الاجتماعية وغيرها. ولكن، ما يميّز السلطة الفلسطينية هو إبداعها الجداول الزمنية المتصلة بالمسار السياسي، ونجاحها، كل حين، في ترحيل أزماتها عدة سنوات إلى الأمام، في واقع يبدو بحاجة ماسة إلى تعامل طارئ مستعجل.

منذ وجود السلطة، لم يخلُ جدولها الزمني من موعدٍ ما لتحقيق غاية وطنية سياسية، على بعد عدة سنوات، وقبيل بلوغ السنة المرصودة، والنقطة الأخيرة في الجدول الزمني، تضع السلطة نقطة أخرى وجدولاً آخر على مرمى عدة سنوات أخريات. وفي الفسحة الواسعة بين الآجال تلك، تحشد السلطة قواها وجماهيرها، لتحضّهم وتدربهم على "الانتظار"، والأهم أن الانتظار صامت سلبي حيال كل ممارسات السلطة وأخطائها وتنازلاتها، فالجميع ينتظر الموعد المرصود لتحقيق مشروع السلطة الأهم.

المتتبّع لعلاقة السلطة مع الجداول الزمنية يلحظ تدريباً مكثفاً في عهد أبوعمار، حينها كانت جولات المفاوضات الثيمة الأساسية لتقسيم الزمن، والجميع ينتظر بين جولة وأخرى، متداولاً عبارات "البرنامج المرحلي، المرحلة الانتقالية، التمهيد لمناقشة قضايا الحل النهائي... إلخ". وفي مرحلة ما بعد الانتفاضة الثانية، أصبح واضحاً أن على السلطة أن تركن إلى جداول أخرى، غير المفاوضات المتعثرة، ودشّن سلام فياض في عهد أبومازن نقلة نوعية في "زمن السلطة"، وحوّله إلى مستوى داخلي، متصل بمشروع الدولة، وعندها، بدأ عهد لا نزال نعيشه حتى اليوم.

بدأ الأمر "باستراتيجية وطنية لبناء مؤسسات الدولة"، تحتاج عدة سنوات، ثم مشروع "إعلان الدولة"، ثم "التوجه إلى الأمم المتحدة وأخذ العضوية"، واليوم "التوجه إلى مجلس الأمن للاعتراف بالدولة"، والجداول الزمنية تمتد لما يزيد على عشر سنوات، وآخرها ينتهي في 2017. وفي انتظار هذه الجداول حتى خطوطها الأخيرة، وبالتلويح بمواعيدها النهائية وأرقامها، كأنه قدر فلسطيني، تُسقَط جداول أخرى وتغيّب، مثل ولاية الرئيس الانتخابية، ودورات المجلس الوطني التشريعي، وولايات كل المؤسسات السيادية، ومشاريع محاربة الفساد. كل هذا يسقط في غمرة الاحتفال بالسنوات التي تضيفها السلطة إلى عمرها، وتنفق بسخاء لإقناع الناس بأن الانتظار مع السلطة فضيلة، بل وصمود ونضال وطني.

إن التسليم المستمر بإدارة السلطة لزمن شعبها وتحكّمها به ينذر بتلاشي الزمن الوطني، "زمن التحرير"، "فجر الحرية والكرامة والاستقلال"، "موعدنا مع النصر"، وصولاً إلى حال بائسة من استبداد زمن السلطة وتسيّده، قوامه إغراق الفلسطينيين بجداول زمنية فضفاضة، تراوح بين إعلان الدولة وصرف الرواتب الشهرية.

نقلا عن العربي الجديد