لم تثنِ حملة الاعتقالات الموسّعة التي تشنّها شرطة الاحتلال في القدس منذ يوليو/تموز الماضي وحتى اليوم، شبان المدينة عن التعبير عن غضبهم والاستمرار في المواجهات مع الاحتلال وإشعال نقاط الاحتكاك. فمثلما شهدت الأشهر الأخيرة ارتفاعاً كبيراً في عدد المعتقلين، فإنها كانت أيضاً على موعد مع ارتفاع كميّ ونوعيّ في حوادث إلقاء الحجارة والزجاجات الحارقة التي تستهدف منشآت الاحتلال ومرافقه، كالقطار الخفيف والحافلات ومداخل المستوطنات.
ولم يستطع الإسرائيليون تحمل هذه الهبّة المقدسيّة، وبات شعار "إرجاع الهدوء إلى العاصمة" مطلباً متكرراً. وعمدت بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية وشخصيات عامّة من المستوطنين على "فيسبوك" إلى التأكيد أن ما يجري في القدس المحتلة هو انتفاضة فلسطينية بكل ما للكلمة من دلالات، فيما يبدو محاولة لدعم النداءات المتكررة بتعزيز أعداد قوات الأمن الإسرائيلية وتوسيع الصّلاحيات المعطاة لها، على اعتبار أن "هكذا انتفاضة تستدعي هكذا ردّ". حتى إن البعض من الإسرائيليين دعا إلى إقالة وزير الأمن الداخلي إسحق أهرونوفيتش، متهمين إياه بأنه الذي يقيّد يد الشرطة في القدس، مما يسمح بتفشي مظاهر هذه الانتفاضة.
رئيس بلدية الاحتلال، نير بركات، والذي تجوّل في اليوم التّالي لاستشهاد الشّاب عبد الرحمن الشّلودي في عدد من الأحياء الفلسطينية المشتعلة كجبل المكبر والعيسوية للاطلاع على نقاط الاشتباك، كان من ضمن هؤلاء. فقد سبق أن بعث برسالة إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية بينامين نتنياهو تطالبه بمساءلة أهرونوفيتش عن تقصيره في ردع مواجهات وتظاهرات القدس. وعلى ضوء هذه الأصوات، عُزز التواجد الأمنيّ في القدس المحتلة، وباتت عناصر الشرطة وحرس الحدود في كل مفرق وحارة فلسطينية.
حملة انتقامية
لم يكتف الاحتلال بذلك، فاستعاد النّظرية القديمة التي يستخدمها في الانتقام والتنكيل بالفلسطينيين، "إصابتهم في جيوبهم"، كما يقول التعبير العبريّ.
منذ منتصف الشهر الماضي تقريباً، تشهد الأحياء الفلسطينية، وبشكل يوميّ، حملات مداهمة من قبل طواقم البلدية وسلطتي الضرائب والطبيعة الإسرائيلية، تقوم بتغريم الفلسطينيين، بحجج مختلفة، إضافة إلى تنفيذ أوامر هدم لمنشآت سكنية وتجارية. وقد تصاعدت هذه الحملة بشكل مكثف قبل أيام، وطالت بشكل أساسي بلدات سلوان، جبل المكبر، العيسوية، الطور ووادي الجوز.
لم يكن الأمر عشوائياً، فرئيس بلدية الاحتلال يتابع الأمر بشكل مباشر. وقد رافق في إحدى المرات الطواقم البلدية والأمنية التي أغلقت بعض المحلات التجارية. وأصدر تعليماته في 28 أكتوبر/تشرين الأول لرؤساء الأقسام البلدية بتصعيد هذه الحملة، تحت مسمى "عمليات تطبيق القانون وحملات الجباية".
وقد وظّفت هذه الحملة الانتقامية وسائل التكنولوجيا في خدمتها، إذ أعلنت بلدية الاحتلال، في بيان صادر عنها، أنها أنشأت، وبمبادرة شخصية ومباشرة من بركات، وحدة جديدة للمراقبة الجوية.
وتضم 5 بالونات هوائية للمراقبة أطلقت فوق مختلف الأحياء الفلسطينية لمساعدة طواقمها في رصد أي "مخالفة" لقوانينها، من بناء غير مرخص، أو محاولات لإدخال المواد الزراعية والغذائية من الضفة الغربية إلى القدس، وغير ذلك.
وتشمل هذه الحملة الانتقامية اقتحام المحلات التّجارية من قبل طواقم البلدية، ومطالبتها باستصدار تراخيص للعمل التّجاريّ خلال أسبوع. وهو الأمر الذي يستغرق وقتاً طويلاً وتكاليف مالية لا يقدر بعض المقدسيين عليها. كما سارعت البلدية في تنفيذ أوامر الهدم المؤجلة أو المجمدة، وتوعدت طواقمها الأهالي بالمزيد من عمليات الهدم في الأيام المقبلة.
إضافة إلى طواقم البلدية، تقوم طواقم سلطة الضرائب الإسرائيلية بمداهمة المحلات التّجارية لجباية الضرائب من أصحابها أو مصادرة ممتلكاتهم، في حال لم يتمكنوا من سداد الضرائب مباشرة.
كما كثّفت دوريات شرطة المرور الإسرائيلية من عملها، وقامت بتحرير المخالفات وتفتيش السّيارات والتدقيق في هويات المارة. كما تقوم طواقم سلطة الطبيعة الإسرائيلية بتهديد أصحاب الأغنام والدجاج ومصادرة بعض ممتلكاتهم الرعوية.
إنها السياسة
علي أسعد من جبل المكبر، جنوب القدس، تلقى أمراً من سلطة الطبيعة الإسرائيلية بالتخلص من 20 رأسا من الغنم و25 دجاجة خلال ستّة أيام، وإلا سيتم هدم البركس (المقصورة) الذي يؤويها ومصادرتها، وتغريمه 10 آلاف شيكل (3.7 ألف دولار).
يقول عبيدات في حديث لـ"العربي الجديد": "عمري 54 عاماً ومن اللحظة التي ولدت وعائلتي تربي الأغنام والدجاج. نحن نعيش في قرية، ومن الطبيعي وجود هذه الحيوانات في مزارعنا الشخصية، ولقد ربيت هذه الأغنام لعشر سنوات، وهي لا تقدّر عندي بثمن". ويعلق عبيدات على الحملة التي تطال المدينة قائلاً: "الأمر لا يتعلق بالقانون، أو بالحصول على التراخيص اللازمة، لكن الأمر سياسي بحت، هم لا يريدوننا هنا، ويريدون الانتقام".
ويشير عبيدات إلى أقارب وجيران له تم تهديدهم بمصادرة ممتلكاتهم الرعوية في حال لم يخلوها، حتى إن أحد جيرانه تلقى تهديداً بالتغريم المالي في حال لم يقم بالتخلص من كلبه المنزلي.
أما محمد مشاهرة من جبل المكبر، فقد استلم قبل أكثر من أسبوع إنذاراً بضرورة تقديم طلب للحصول على ترخيص تجاري خلال أسبوع، وإلا سوف يتم إغلاق بقالته. ويوضح أنه يعمل منذ حوالى 15 عاماً في هذه البقالة، ولم تتم مطالبته خلال كل هذه السنوات بأية تراخيص. ويضيف "نحن في هذه الأيام لا نعمل، فحتى الزبائن الذين أوقفوا سياراتهم أمام محل البقالة تمت مخالفتهم، بحجة الوقوف في مكان ممنوع بمبلغ 250 شيكلا (66 دولارا)".
كما قامت قوات الاحتلال بإغلاق ثلاثة محلات في جبل المكبر في الشارع المحاذي لمستوطنة "أرمون هنتسيف"، بادعاء أن الشّبان الفلسطينيين يرشقون المستوطنة بالحجارة من أمام هذه المحلات.
حمزة عبدو صاحب محمص من ضمن هذه المحلات الثلاثة يقول لـ"العربي الجديد": "أمرونا بإغلاق المحلات من دون تحديد موعد، وهددونا بتشميعها وإغلاقها نهائياً في حال قمنا بفتحها، حتى ولو لغرض إخراج البضائع منها". ويضيف عبدو "البضاعة التي لدي في المحمص تقدر بما لا يقل عن 30 ألف شيكل (7918 دولارا)، وهي بحاجة لعناية حتى لا تتلف، ناهيك عن تكاليف الإيجار".
بدروره يروي مراد أبوغربية، وهو صاحب مخبز في سلوان معاناته، قائلاً "يجب أن أدفع مبلغ 4000 شيكل (1055 دولارا) للضرائب، ويسمح لي القانون بدفعه حتى شهر من اليوم، إلا أنني فوجئت بطواقم الضريبة تداهم المخبز وتطالبني بدفع المبلغ نقداً ومباشرة، وإلا ستقوم بإغلاق المخبز. لا علاقة للقانون بالأمر، إنهم يريدون التنكيل بنا وتجميع الأموال على ظهورنا".
وقد شهد الأسبوع الماضي في القدس خمس حالات هدم على الأقل لمنشآت سكنية وتجارية. كما أجبرت شرطة الاحتلال حسين أبوخضير، والد الشهيد محمد أبوخضير بإزالة اللافتة التي تحمل صورة ابنه عن واجهة بيته. وهددته بأنه في حال لم يفعل ذلك سيتم تغريمه من قبل البلدية بألفي شيكل عن كل يوم تبقى اللافتة في مكانها.
وفي حادثة مشابهة، تم تغريم صاحب محل خضروات في سلوان بمبلغ 500 شيكل (155 دولارا) لوضعه ملصقاً عليه صورة الشهيد عبد الرحمن الشلودي.
"القدس فيهاش كبير"
إضافة إلى الانتقام من الفلسطينيين وتغريمهم "الثمن"، فإن الهدف من هذه الحملة، بطبيعة الحال، تصدير "أزمة غياب الهدوء" الإسرائيلية إلى داخل المجتمع الفلسطيني، عن طريق استهداف الحاضنة الشعبية المقدسية للشّبان الغاضبين، وتأليب الأهالي وأصحاب المصالح التّجاريّة عليهم.
ليس هذا التصعيد من قبل سلطات الاحتلال في القدس بجديد أو بغريب عليها، فقد تكررت حملات الانتقام، وفي كلّ مرة أبدى المقدسيون نزوعاً للتمرد والتحدي، منها على سبيل المثال حملة شبيهة شنّت على قرية العيسوية لتضامنها مع ابنها الأسير سامر العيساوي الذي أضرب عن الطعام لفترة طويلة.
ومع كلّ حملة انتقامية يزداد عدد الباحثين عن الخلاص والمتسائلين إلى متى؟ رجل مقدسي تعدى الستين عاماً قال لـ"العربي الجديد": "المفروض أن يرفض أهالي القدس هذه التهديدات، ويرفضوا دفع المخالفات، ويعلنوا العصيان المدني. بس شو بدنا نعمل. القدس فيهاش كبير".
المصدر: العربي الجديد