أطفأ وسام يزبك ابن ال 25 عاما محرك الجرافة حيث كان يعمل في تعبيد الشوارع إلى جانب دراسته لموضوع إدارة الاعمال، فقال له صاحب العمل: "لم تنته ساعات دوامك في العمل اليوم لماذا توقفت؟ فرد عليه وسام: "بدك اياني اشتغل وهناك شهيد في الناصرة؟".
كان هذا في الثاني من أكتوبر عام 2000، حيث اندلعت المواجهات كالنار في الهشيم، كنت يومها ابنة 11 عاما، وأذكر جيدا تجمهر الناس حول الراديو ليتابعوا الأحداث لحظة بلحظة عبر راديو 2000، وأذكر أن أبي عاد إلى البيت، وقال لأمي "الوضع بطمنش". أمي التي كانت تعلم أن الرصاصة التي اخترقت جسد واحد منا في سخنين موجهة لنا جميعاً، فأظهرت القوة والحزم أمامنا على الرغم من اشتعال القلق في قلبها عكس محياها.
في الثامن من أكتوبر، أي بعد أربعة أيامٍ من سقوط آخر شهيد ظنّت أم وسام أن المواجهات انتهت، بينما كانت تخطط بدورها لزيارة مؤجلة منذ بداية الأحداث، لتختار لابنها البكر عروساً. كان بيت الفرح جاهزا ينتظر فقط أن نجد العروس كما قالت أمه. لم يكن وسام يعلم بذلك، وحين أخبرته أمه كان في الطريق مع خاله إلى طولكرم لشراء قطعة لسيارة وسام الجديدة!
عندما وصلا باقة الغربية عبرا الحاجز كانت باقة الشرقية تشتعل كما الناصرة في تلك الليلة، إطارات السيارات مشتعلة في الشوارع، وشبابٌ يوثقون ربط اللثمام، قال وسام لخاله: "خلينا نرجع بلاش نموت هون".
في تمام الساعة التاسعة كان مدخل الحارة الشرقية من جهة مستوطنة "نتسيرت عيليت" يشتعل كانت المواجهات في أوجها، "العدل" (بناية المحكمة) وقف كالمارد بين "نتسيرت عيليت" والناصرة على شكل محكمة، مبنى استعماريًا فاحش البشاعة، اعتلى القناصة سقفه ليطلقوا الرصاص الحي على أبناء الأرض الأصليين! فلا إنصاف للمُحتل الضعيف طالما رضيَّ ان يكونَ ضعيفاً، والمحكمةُ لم تظلمنا ببهتان عدالتها فقط، بل قدمت جسدها وسيلةً لقتلنا وتجلت لتخدم مشروع شعبها الاستعماري! نعم لن نتساءل أين العدل؟ وأين الرحمة؟ هؤلاء محتلون، ونحن لسنا مواطنين في دولتهم نحن شعبٌ يرزح تحت الاحتلال!
الساعة التاسعة وعشر دقائق تمكن القناص من إصابة عمر عكاوي عشوائيا، استقرت الرصاصة في صدره واستشهد على الفو، حمل الشباب الشهيد بغضب وفزع وإصرار على إكمال المواجهة، استمرت المواجهات وفجأه، انقضت قوة كبيرة من المستعربين والشرطة ومستوطنين من " نتسيرت عليت" على الحارة الشرقية وحاصروا المدخل! "كان الرصاص الحي يمر من فوق رؤوسنا كالمطر"، قال خال وسام! أين وسام؟ سأل الخال أخته في اتصال هاتفي للبيت أجابت أنها لا تعلم. وأردفت: أليس معكم؟ كانت الساعة تشير إلى 9:30 أي بعد استشهاد عمر العكاوي بعشرين دقيقة اتصل أصحاب وسام مرة أخرى بأمه، لتبدأ عملية البحث بالمستشفيات، لم يكن لوسام اسم في المستشفى الإنجليزي على الرغم من وجوده هناك! اطمئن قلب الأم قليلا لأن وسام لم يكن ضمن قائمة الجرحى.
راديو 2000 يذيع في هذه الأثناء عن شاب أصيب في المواجهات ولا يوجد معه أي بطاقة شخصية أو ما يشير إلى هويته، ولكنهم تمكنوا من إذاعة رقم هاتفه الجوال الذي كان في جيبه، لكن أحدا لم ينتبه لهذا البلاغ!
كانت بطاقة هويته الشخصية تسقط من جيب قميصه كلما سجد اثناء أداءه لصلاة الظهر في بيت جده، وكأنه لا مكان لبطاقة زرقاء في جيب شهيد. تذكر خال وسام أنه كان قد وضع بطاقة الهوية ورخصة القيادة في السيارة بسبب سقوطها المتكرر!
خبر غير مؤكد وصل أخيراً أن شابا من الناصرة نقل إلى مستشفى "رامبام" في حيفا وحالته خطيرة، لم يكن أمامهم إلا الذهاب الى حيفا فورا، ولكن كيف، والليلة هي عشية ما يسمى بـ"يوم الغفران" ويمنع منعا باتا التنقل والخروج، في هذه الأثناء أصيب شاب آخر من الحارة الشرقية في المواجهات مما استدعى نقله بسيارة إسعاف إلى مستشفى "رامبام" بسرعة، لم يكن أمام خال وسام إلا السير وراء سيارة الإسعاف اتقاء لشر حجارة اليهود في الشوارع.
كان قلبه ما زال ينبض لقد كان يقرئنا السلام ويستودعنا الأرض ويودعنا لها، لكن عقله كان قد توقف بعد أن تلقى رصاصتي قناص استقرتا برأسه من الخلف، كان هذا ما تدربت عليه قوات الشرطة قبل شهر واحد من مظاهرات أكتوبر 2000 وكانت الخطة تحمل اسم "سحر المعزوفة" وصولاً إلى لعبة الحرب "رياح العاصفة" تمت المصادقة على استعمال وسائل قمع شديدة، بما فيها الاستعانة بالقناصة في مظاهرات العرب!
في الثاني من أكتوبر وفي النشرة الرئيسية لأخبار القناة الأولى ذُكِر وبشكل واضح أنه تمت الاستعانة بالقناصة في أم الفحم! واعترفت الشرطة في تحقيقات لجنة "أور" أن الاستعانة بالقناصة لم يكن للدفاع عن الذات أو عن آخرين وإنما لإلحاق الأذى بالمتظاهرين كعامل رادع لهم! الاستعانة بالوسائل الفتاكة ضد المتظاهرين العرب جاءت كنتيجة مباشرة لأوامر رئيس الحكومة آنذاك، إيهود براك، في اجتماع خاص عقده في منزله ليلة الثاني من أكتوبر بحضور وزير الأمن الداخلي شلومو بن عامي.
في عام 2008 أغلقت ملفات التحقيق! وصرح ميني مزوز المستشار القضائي للحكومة في حينه "إن هؤلاء قُتلوا من غير قاتل".
الآن، بعد مرور 14 عاما على استشهادهم، تم تعيين مزوز قاضيا في المحكمة العليا، المحكمة التي أغلقت ملفات التحقيق ضد رجال الشرطة المتهمين بقتل أبنائنا، المحكمة التي كان صرحها مسرحاً للجريمة كيف ستنصفنا؟ لا رجاء ولا استجداء، يقول المثل الفلسطيني: "إن كان القاضي غريمك، أشكيك لمين؟".
وصلت أم وسام إلى المستشفى برفقة أصحابه، وأخبرها الخال أن وسام استشهد! اليوم وبعد مُضي 14 عاما لا يعزّي الأم التي قالت لي بحرقة شديدة إلا أن ينال الجاني عقابه. "ما بصدق وينتا ييجي الليل عشان أنام، بلكي أحلم بوسام واطمئن عليه".