تحدث لنا بحرقة واضحة عن جمال البلد والمرافق العامة فيها التي لم تنشئها "إسرائيل" بعد بسبب قلة الميزانيات المخصصة للمجالس المحلية العربيّة. قال للمتظاهرين: "ارجعوا يا عمي بدناش تتأذوا بدناش نخرب بلدنا"، وسرعان ما جرفتهُ الجموع الغاضبة المتجهة نحو القوات الخاصّة الإسرائيلية. ومع أول قنبلة غاز، كان ذلك الأب من أبناء الجيل الثاني بعد النكبة، يركض باتجاه المصابين بحالة الاختناق يحمل بيده بصلاً وخلّاً ويقدّم المساعدة! وفي رأسه يدور ألف تناقض يفتح ألف سؤال، أهمها ربما: ما الجدوى من المواجهة غير المباشرة!؟
كان وما زال قياديّا يقول كلاماً لا يُصدّق، فذاتَ عدوانٍ على غزة، خرج علينا على التلفزيون ويقول: "غزة الصمود، غزة الكرامة، غزة أقوى من العدوان"، ويستنكر الهجوم الإسرائيلي، وينهي كلامه بكلمة مستمرون في نضالنا". نحن نعلم أنك لم تبدأ لتستمر، نحن نعلم مشاكل بلداننا العربية التي لم تبادر بحلها أو بطرحها على الطاولة كأضعف الإيمان! إذن كيف تجرؤ الآن وتقول لنا تراجعوا نحن نخاف عليكم، لا نريد اشتباكات مع "قوات اليسام"!؟
ذات "القيادي" اعترض المظاهرة بامتعاض من باب "أي خلصونا عاد"، وبأداءٍ عالٍ يكاد يتطابق مع كلامه عن الخوف على أبنائه "نحن". اعترضته جماهير جيلنا الثائر الواثق بأن مَنْ كَسَرَ حاجز المواجهة المباشرة مع العدو لن توقفه القيادات التقليدية لسببين (ويُستثنى من هؤلاء القياديون الحقيقيون الذين بعملون بجدّ). الأول يلخصه المثل "من ضربَ الحمار لن يتشاطر على البردعة"، والثاني هو من باب المسؤولية الوطنية ورفض الاقتتال الداخليّ خاصة في هذه الظروف العصيبة الصّحيّة التي يمرّ بها شعبنا.
خرج صوتٌ صادقٌ من المظاهرة وقال: "بطلنا نصدقكم"، "يا عيب الشوم عليكم"، وما أن سمع القيادي الرزين هذا الكلام حتى بدأ يتلفت ويردد عبارات بالية يذكّرنا ببطولاتٍ وطنية أكل عليها الدهر وتقيأ. في هذه الأثناء تداركت إحدى المتظاهرات الموقف وهتفت بأعلى صوتها" والتنسيق الأمني ليش؟ ليش؟".
في الأربع وثمانين ساعة الأخيرة قبيل بدء العدوان على غزة، كانت الإطارات ما زالت تشتعل في شوارع الجليل والمثلث. في هذه الأثناء كان وزير الداخلية "جدعون ساعر" يحمل قائمة هواتف ويركض من هاتف لآخر يتصل برؤساء المجالس المحليّة في البلدان العربية ليطلب منهم اجتماعاً هو الثالث من نوعه خلال أقل من أسبوع فقد سبقه اجتماعٌ مع وزيرة العدل الإسرائيلية "تسيبي ليفني" في تل أبيب. كما اجتمع بهم وزير الأمن الدّاخليّ "يتسحاق أهرونوفتش"في الناصرة. كان الهدف الرئيس لهذه الاجتماعات هو "لملمة الموضوع" وبكلمات بسيطة، الوقوف أمام جيلٍ ثائرٍ تُحركه الفطرة، فطرةُ الإنسان القابع تحت الاحتلال، جيلٌ أنزلَ عن كتفهِ الهزيمةَ المتراكمة بفعلِ بعض أسلافهِ، يفرضُ على الشارع ويعيدهُ للمربع الأول. يعلم ساعر جيداً أنه لا تأثير حقيقي على الشّباب والشّابات ممن اجتمع معهم، وتعلم القيادات المجتمعة أن ساعر كاذب بوعوده وحديثه عن السلم والتعايش، أحدهم تحسس قلبهُ وكرسيه واختصرَ المشهد!
[caption id="attachment_45031" align="aligncenter" width="519"] من مظاهرة في قرية عرعرة - المثلث - الأراضي المحتلة عام 1948، تصوير: منى عمري[/caption]مشاهد من الميدان
لم يكمل السّابعة عشرة، غطى وجهه بكوفية وحمل حجريّ "بلوك" أسقطهما أرضا ليصيرا حجارةً كثيرةً تكفي للجميع - هذه هي الوحدة الوطنية هذا هو العمل الجامع- صوبَ على رجل اليسام المدجج بقنابل الغاز، الغاز الذي يفرق المظاهرة التي تعود وتلتأم بفعلِ رأس بصل.
"ميلي عند الخرساني نشتري بصل وخل" جملة يقولها لي أحد الرفاق قبل كل مظاهرة ودائما يكون جوابي "تأخرنا منشتري من هناك"، وهناك يقتسم الناس البصل "يا داخل بين البصلة وقشرتها أنا أصلا بدي أشم ريحتها"، على حدود انتشار الغاز المسيل يقف متطوعون يحملون البصل يوزعونه على العائدين بإتجاه الجند، ودائما يوجد شخص ما يحمل كوفية غارقة بالخل، ما ان تقترب منه حتى " يفركها" بوجهك، تختنق وتُحجب الرؤيا لمدة ثواني، ينتهي مفعول الغاز، تستدير، تعود. البصل يملأ الشارع وموعد أذان الإفطار يقترب، لا يترك أحدٌ مكانهُ حتى يخرج اخر "يهودي من البلد" .
يعلو صوتٌ ويُذكر: "تنادوش على بعض بالأسماء في مستعربين، وحطو البلوزة جوا البنطلون" تعميم يُأخذ على عاتق الجميع في المظاهرة، عودة الملثم والملثمة اللذان يحملان نفس الاسم الذي اعتمد من قبل الجميع، يتم استخدامه للتنبيه من اي مكروه، ردود الفعل السريعة والصحيحة المُتفق عليها عن طريق الإلهام فقط، تضمن إستمرارية المواجهات.
يضرب الجند قنبلة الغاز أو الرصاص المطاط تصيب أحدا، يُنقل فورا الى المركز الصّحيّ القريب، يصرخ أحدهم " جيب كوفيتو جيب كوفيتو ". زينة رمضان تملأ الشارع وحاويةُ قمامة تزينُ المشهد وتفرض خطابا جديداً على الاحتلال وعلى قيادات الصف الاول، بأن لا سيطرة على الشارع ولن تستطيعوا ردّ هذا الويل، سوف يكونُ السّيل!
صَوبَتْ حجراً بوجه الاحتلال، لا تذكر هي وأبناء جيلها إلا الشيء القليل من أيام الانتفاضة، الشرطة تعتقل القاصرين وتضعهم في الزنازين وتوجه ضدهم لائحات اتهام، خوفاً من جيلٍ بذلت "إسرائيل" في أسرلته سنين وأموالا عجاف! فهو ليس "أزعراً" كما وصفه رئيس البلدية بعد أن قال له يا بني لا تضرب حجراً لنكونَ لك من المجيريين (المدافعيين)، وعندما أعتقل كان وزير البلدية يصرح في جلسة مغلقة عن أن حرق حاوية القمامة هو تخريب للملك العام، وأنه علينا ان نعيش معا بسلام! كان من المفروض حسب تخطيط "إسرائيل"، أن يتنافس مع رفاقه على تأدية الخدمة المدنية ولربما العسكرية وأن يقحم العبرية في كلامه، ويصدق ما جاء في كتاب التاريخ، لا أبالغ إن قلت أن ثمةَ هنا من يقلب وجه التاريخ ونظريات الإبادة الثقافية.
بعيداً عن "رقابة" الأهل
نكذبُ على أهلنا مجبرين، لأننا نعلم مدى خوفهم علينا، وحدثونا هم فيما حدثونا عن جبروت "إسرائيل" ومخابراتها في معرفةِ حتى ما نأكل وما نشرب! ويعلمون أننا لا نصدق وتثبتُ هي فشلها الاستخباراتي عبر شاشات إعلامها وأخبارها المتناقض والذي يضطر مجبراً على نفي العديد من أنبائه عندما تُثبتها غزة! لا نُحب ان نكذب عليهم لكننا مجبرون على تغيير الواقع كي لا يكذب أبناؤنا علينا، أو كي لا نقف مشدوهين لا نملكُ إجابة على سؤالهم الحتمي "ماذا فعلتم كي لا يكون ما كان"!؟ المهم أن أحد الرفاق اتصلت به أمه قبيل بدء المظاهرة: "أهلًا يما انا منيح هياتني بالدار ولااي قديش جاي عبالي مسخن اه اه هاد الاسبوع مروح اكيد، ازا نزل الصبر خليلي شوي تمام تمام تلفوني بدو يطفي يلا باي".
أحد المصورين قال لوالدته عندما اتصلت به وبادرت بالسؤال: "وينك انشالله بعدك بالمواجهات!؟ " كنا نكتم أنفاسنا في السيارة نحاول نقلها الى مكان بعيد عن المواجهات، "اه يما هياني حد البيت بستنى بشب يجيبلي شنتة الكاميرا" رجع الى البيت بعد ثلاث ساعات.
الساعة قاربت على منتصف الليل، أصبح الخروج من أم الفحم مستحيلاً، قوات اليسام تغلق المدخل. قالت صديقتي بلهجة سعيدة "علقنا هون "، بعد تصوير متواصل لمدة سبع ساعات بين عرعرة وأم الفحم كنا منهكين لدرجة اننا عندما قررنا أخذ استراحة قصيرة بالسيارة نمنا على الفور، بعد 10 دقائق تقريبا اتصلت أمي، التي كانت تعلم انني وزملائي المصورين نوثق المواجهات، "بس مش لهاي الساعة"! أجبت على الهاتف بصوت نائم: "اه يما، اه نايمة، احنا مناح كلنا بخير، اه روحت زمان، يما بدي ارجع انام"، بمُ صوت قنبلة غاز كاد يفسد الكذبة، "يما شو هاد الصوت؟! يما هدول دار جيرانا بجوزو ابنهم، باي بحكي معك بعدين".