"مسادا لن تسقط ثانية" هذه هي صيغة القَسَم الذي يؤديه جنود المشاة الإسرائيليون على أنقاض بلدة "مسادا" التي صُممت في الوعي الإسرائيلي، في سياق بناء الأسطورة المؤسسة للأمة، باعتبارها مدينة رفضت الاستسلام، وفضلت أن تنام على الرمح، من أن تستسلم للمحتل.
و سواء صدقت الرواية أم لا (الرواية التاريخية الأكثر مصداقية على لسان المؤرخ فيليبوس هو أن من انتحر في مسادا كانت مجموعة من اللصوص التي نفذت مجازر بحق سكان المنطقة وبضمنهم سكان بلدة عين جدي اليهود) فإن الأسرى الإداريين الفلسطينيين يبنون في الوعي الفلسطيني، تماما في هذه اللحظات التي تقرأون فيها هذه السطور، نموذجا يتفوق على الأسطورة الصهيونية: إذ، بعد عبور حاجز اليوم الستين من الإضراب، أعلن الصف الأول من المعتقلين امتناعهم عن تناول الماء والملح، ما قد يعني انهيار الأجهزة الحيوية لأجساد المضربين في الساعات المقبلة.
انتحار جماعي؟ لِمَ لا؟ علينا أن نفهم ما الذي يحدث خارج السجون وفيها كي نستطيع فهم دوافع هذا القرار.
هنالك إضراب بسقف عال، سياسي، يستهدف إنهاء ملف الإعتقالات الإدارية، وهي الاعتقالات التعسفية التي تجري من دون محاكمة، لأفراد ينتقيهم الاحتلال بعناية، وهم في أغلبهم خرّيجي سجون الاحتلال وسجون السلطة، ويستمر اعتقالهم، غالبا بلا أفق منظور للإفراج، حيث يقوم الجيش الإسرائيلي بتمديد الاعتقال لحظة انتهائه لدورة قادمة.
كل هذا يجري، في وقت يعمل فيه الكنيست الإسرائيلي على سن قانون الإطعام الجبري. من خاض إضرابا عن الطعام يعلم تماما أن أي فائض مجهود يقوم به المضرب عن الطعام سيؤدي حتما إلى استنزاف القليل المتبقي من الطاقة في الجسد، إضافة إلى الآلام المبرحة التي تعصف بجسد المضرب نتيجة انكماش الأوردة والعضلات. إذا، سيكون قانون الإطعام الجبري، حال تنفيذه، عملية اغتيال ممنهج ضد الإداريين. (في سجون فلسطين الثمانينيات، وفي جنوب إفريقيا العنصرية، كان الإطعام الجبري المسبب الأول في حالات استشهاد المناضلين المضربين) هذا اغتيال يجري تحت وقع التحضير لعمليات أمنية واسعة النطاق في فلسطين. وفي غياب مراقبة حقيقية لما يحدث خلف الجدران.
ما من ضغط حقيقي في الشارع المأخوذ بالتحضّر لمجزرة إسرائيلية جديدة ربما.. القلائل الذين ارتادوا خيام التضامن مع المعتقلين هوجموا وضُربوا واعتقلوا على يد عناصر سلطة الحكم الذاتي. في ذات الوقت الذي يبني فيه الفلسطينيون في حيفا وعكا وشفاعمرو وغيرها من البلدات في شمال فلسطين ،تصاعدا مستمرا في فعاليات الإسناد ستتوج نهاية هذا الأسبوع بمظاهرة جماهيرية ضخمة تتوجه إلى ثلاثة أهداف: تهشيم سطوة الجهاز الأمني الصهيوني على الوعي، إزالة "الخط الأخضر" مرة واحدة وإلى الأبد باعتباره فاصلا يسيّج العمل السياسي الفلسطيني على شطريّ خط الهدنة. ورفع معنويات المضربين في المستشفيات.
تعي دوائر صنع القرار في القدس أن الأسرى الإداريين قد "زادوها" كثيرا.. فعلى امتداد صف كامل من الجبهات الخاسرة مع الاحتلال ووكلائه منذ أوسلو، تحافظ جبهة الأسرى الإداريين على موقعها المتقدم في إنتاج انتصارات تغذّي الوعي الشعبي بأدلة منطقية على إمكانية هزيمة الاحتلال، وعلى هشاشة منطق سلطة رام الله فيما يتعلق بغياب البدائل سوى الانبطاح التام أمام الإسرائيلي. في البداية أضرب المعتقلون الإداريون عن الامتثال أمام المحاكم العسكرية. ومن ثم قدّم خضر عدنان نموذجا ساطعا عن قدرة الإنسان الوحيد على هزيمة المنظومة بقوة الإرادة وحدها، ومن بعدها انفرطت المسبحة، توالت هزائم المنظومة القضائية والعسكرية أمام الإضرابات الفردية، وتنامى دور هذه البدائل في خلق أمل شعبي تلتف حوله الحراكات الشبابية التي وجدت أبطالها خارج إطار الملصق الرسمي، وخارج المعادلة التي يراد فرضها في فلسطين: دعوا الاحتلال يتحرك.. دعونا نطالب بمقعد رسمي في الأمم المتحدة.. ودعوا منظمات المجتمع المدني ترسم قلوبا على وجوه أطفال المخيمات في فعالياتها الإنسانية، ولا تطلبوا أكثر من هذا.
عبّاس أيضا غير راض عن الثغرة التي فتحها الأسرى في السور، فهو لا يريد لهم الخروج إلا من باب بوادر حسن النية الاسرائيلية، باعتبارها دليلا ساطعا على جدوى التفاوض. ولعل إعادة اعتقال العشرات من محرري صفقة غلعاد شاليط ما يجعل نوم رئيس مقاطعة رام الله هانئا.. فلا حريّة للأسرى خارج إطار الاستعطاء. وكل عمل مقاوم، سواء استهدف تحرير الأسرى أم لا، يحمل في حد ذاته مقولة تتناقض في المبدأ مع السلطة التي تكرّس نفسها وتكتسب من "إدارة الأزمة".
أي تفجير، في الوعي وفي الجدار، يريد الإداريون أن ينفذوه بانتحارهم في أسبوع المونديال؟ ألم يجرّب أسلافهم الفدائيون الانتحار في بيروت ذات مونديال هم أيضا؟
في لقائها الأخير بفينكي زيتلاف في السجن، قالت أولريكة ماينهوف، القائدة في جماعة الجيش الأحمر الثورية "لن يكون بوسعي الوقوف والقتال ما لم أكن على قيد الحياة، أليس كذلك؟ إن قالوا لك يوما بأنني قد انتحرتُ، فتأكدي أنه قد تمّت تصفيتي".