شبكة قدس الإخبارية

قراءة في دراسة "صهر الوعي"

هيئة التحرير

إعداد: جمانة غانم ولينا أبو الحلاوة

تعتبر دراسة "صهر الوعي: أو في إعادة تعريف التعذيب" التي أعدها الأسير وليد أبو دقة ابن باقة الغربية في الداخل المحتل إنتاجاً مهماً ومُميزاً كونها تختلف في فلسفتها و تحليلها عن كثير من الأدبيات التي أنتجتها مؤسسات حقوق الإنسان والأكاديميا حول تجربة الأسرى و طبيعة التعامل معها.

ويحاول الأسير الفلسطيني أبو دقة في دراسته أن يسقط واقع السجون الفعلية على المشهد الفلسطيني بأكمله، فهو يرى أن خطة الاستعمار في صهر وعي الأسرى الفلسطينيين تأتي في سياق خطّة أكبر. كما أنه يدرس حالة الأسر كنموذج مصغر للحالة الفلسطينية بشكل عام، اعتبارا من أن الأسرى هم طليعة الفئة المناضلة من الشعب الفلسطيني وبالتالي إعادة تشكيل وعيهم وتشويه تجربتهم يعني المسّ في البنية التحتية المعنوية لعملية النضال الوطني. ويعتقد دقة أن الأدوات التي يستخدمها المستعمر مع الأسرى لتشكيل وعيهم هي ذات الأدوات التي يستخدمها مع الفلسطينيين خارج الأسر، وأن هناك تشابهًا في القراءة الخاطئة للمشهد والمعالجة التقليدية العاجزة عن النهوض به من قبل الفلسطينيين.

ما معنى "صهر الوعي"؟

عندما يتحدث دقة عن مفهوم" صهر الوعي" فهو يقصد كافة الاجراءات التي تهدف إلى جعل وعي الأسرى وإدراكهم وكلّ مرجعياتهم الفكرية ورقة بيضاء وتجهيزهم لاستيعاب مفاهيم جديدة. أي أن الهدف هو إعادة صياغة البشر وفق رؤيا صهيونية من خلال إعادة تشكيل وعيهم حيث تحوّل استهداف الصهاينة للأسرى من استهداف مادي يستطيع الأسير رؤيته وتوصيفه بوضوح وبالتالي مقاومته، إلى استهداف نفسيّ لعقل الأسير وروحه من خلال أدوات ما بعد حداثية حسب دقة تستند إلى نظريات علم النفس. الهدف هنا هو ثني الوعي الفلسطينيّ عن فكرته الأسمى: فكرة التحرر، وذلك عبر عدة اجراءات يُحلّلُها دقة في هذه الدراسة، أهمها استهداف مجموعة القيم الجامعة التي تُجسد مقولةَ الشعب الواحد، وجعل المقاومة فكرة مُكلفة يدفع ثمنها الناس من أعمارهم وأرواحهم هباء.

الانتفاضة الثانية كنقطة فاصلة

يبدو جلياً من الدراسة أن أهم مرحلة تَحوّل في منظومة الأسر سواء الأسر الحقيقي، أو المشهد الفلسطيني الأكبر "السجن الأكبر" هي مرحلة الانتفاضة الثانية حتى عام 2004. يشرح دقة ذلك بالقول إنه مع بداية الانتفاضة الثانية ازداد عدد الأسرى بشكل أكبر من أي أعداد سابقة، وبدأت تبرز تحولات عديدة- في نوعية الأسير و ظروف أسره، و تعامل السجان مع الأسير. وبما أن الانتفاضة الثانية كانت مفاجئة نوعا ما، و غير مُنظمَة إلى حدّ معين، نتجَ عن ذلك "أسير فقير من التجربة النضالية" وغير مُهيىءٍ للسجن و ظروفه.

عدا عن ذلك شكّل زيادة عدد الأسرى صدمةً بالنسبة للحركة الأسيرة والصهاينة أنفسهم وبالتالي أدرك الصهاينة ضرورة تغيير سياستهم في التعامل مع الأسرى، فافتتحوا أقسامًا جديدة، وعملوا على ضرب بنيان الحركة الأسيرة من خلال نقل القيادات، والتنقيل المستمر للأسرى. وبالنتيجة أصبح الأسير في حالة من عدم التنظيم و قلة التواصل بحيث يشعر بالاغتراب عن واقعه ومحيطه.

مع الإنتفاضة الثانية، ظهرت للصهاينة ضرورة التحول نحو الإبادة السياسية والتي تهدف الى جعل فكرة المقاومة مكلفة جداً من خلال الإبادة المادية و المعنوية، وتجلت الإبادة المادية بعمليات القتل و التدمير المبالغ فيه وكثرة الاجتياحات للمدن و القرى الفلسطينية، الأمر الذي شكل صدمة للفلسطينيين خارج السجون أدت الى إبادة معنوية تمثلت في ضرب مفهوم المقاومة و القيم الجمعية التي تمثل مقولة الشعب الواحد.

الخطّة الإسرائيلية لصهر الوعي

وفي هذا السياق استخدم دقة أدوات علمية أكاديمية من أجل توصيف استراتيجية الاستعمار ودوره في صهر و تشكيل الفلسطينيين، منها عقيدة الصدمة عند "نعمي كلاين" و هي باحثة اسرائيلية، تتحدث هذه النظرية عن لحظة يفقد فيها الانسان تحت وطأة ظرفٍ كارثيَ كلّ قيمه وأفكاره السابقة ويكون مستعداً لاستقبال مفاهيم جديدة، حيث يفقد شعوره بالزمان و المكان، وتضعف قدرته على التحليل المنطقي، و يكون في حالة أشبه بالشلل النفسي. استخدم دقة عقيدة الصدمة في توصيف اضراب 2004 الذي تم جرّ الأسرى إليه حسب رأي دقة من خلال مجموعة مدروسة من الخطوات، أولها تعيين الحكومة الاسرائيلية يعقوف جينوت رئيسًا لإدارة السجون عام 2003 وتوفير دعم مادي كبير له، وهو الذي وَحّد إدارة السجون الإسرائيلية، بالتالي لم يعد هناك مكان للعفوية والاجتهاد من قبل مدراء مختلفين.

ومن أهم الخطوات الأخرى لجرّ الأسرى للإضراب: افتعال مواجهات مع الأسرى في كافة المعتقلات بدأت في سجن عسقلان، تطبيق سياسة التفتيش العاري، إطلاق الكلاب على الأسرى، تركيب الزجاج العازل في غرف الزيارات، بالتالي الفصل بين الأسير و عائلته، وغيرها الكثير. وفعليًا حدث الاضراب مع أنّ الحركة الأسيرة حسب دقة حاولت تفاديه قدر استطاعتها لكنها لم تجد ملاذًا غيره. وحينها اتخذت ما تسمى بمصلحة السجون مجموعة متكاملة ومترابطة من الاجراءات تهدف لكسر إضراب الأسرى تمثلت بإرهاق الأسرى نفسيًا من خلال ابقاء النور مشتعلا طيلة الليل والنهار و مصادرة الوسائل البسيطة التي قد تجلب القليل من الراحة للأسير كالوسائد وكؤوس الماء البلاستيكية ومصادرة الملح الذي يستخدمه الأسرى في اضرابهم، والعمل على زعزعة قناعات الأسرى بجدوى الاضراب وعزل الأسرى عن العالم الخارجي و منع تواصلهم مع المحامين و حجب أخبار التضامن الخارجيّ عنهم حتى لا يشعروا بالمواساة.

انتهى هذا الإضراب بنجاح إدراة السجون بفكفكة السجون والأقسام المضربة واحدًا تلو الآخر لتوقف اضرابها ليس بقرار قيادي واحد وصورة منظمة وبالتزامن مع كافة السجون و إنما بشكل فردي وفوضوي. وهكذا حسب دقة تمّ ضربُ ثقة الأفراد بقاداتهم وثقتهم بالعمل النضالي الجماعي وجدواه وتعزيز النزعة الفردية. وفي هذا السياق تحدث دقة عن سياسات تعذيب نفسية مارسها الصهاينة على الأسرى تهدف لجعل الأسير رقيب ذاته من خلال وهم الرقابة الدائمة التي لا يمكنه الجزم بوجودها من عدمه، فاستبدال الاحتلال للجندي الواقف على بوابة السحن بتكنولوجيا الرقابة من خلال الكاميرات و البوابات الالكترونية جعل الأسير يعيش حالة من الشعور بالرقابة الملازمة حتى بعد خروجه من السجن، وبالتالي تحوّل السجن من واقع ماديّ يمكن تجاوزه والتخلص منه إلى سجن داخليّ لا يدرك المرء وجوده و بالتالي لا يستطيع منه فكاكًا.

ومن أهم الاجراءات التي اتبعها الاحتلال لتطبيق خطّة صهر الوعي بعد الاضراب حسب دقة هي الوفرة المادية التي استخدمها الاحتلال كأداة تعذيب دفعت قدامى الأسرى لأن يصفوا وضعهم الحاليّ بالقول أنه "عال ماديا" و "متدن معنويا"، فردنة الأسرى و خصخصة النضال، بمعنى انتقال مطالب الأسرى من كونها جماعية إلى مطالب فردية، عزل السجون وفقا لاعتبارات جغرافية وخلق خلافات وهمية بين هذه الانتماءات البلدية و الجغرافية. يقتبس دقة من أحد الأسرى قوله: "كنا في الماضي مع بعض واليوم نحن على بعض".

في المجمل حسب دقة أدت كل هذه الاجراءات الى انتاج نوعية معينة من الأسرى تقرأ كتب تفسير الأحلام وليس كتب المقاومة، و أصبح بعض الأسرى منشغلين بهمومهم الذاتية ومستقبلهم الشخصي.

============

الأسير وليد نمر دقة، من مواليد عام 1961 في بلدة باقة الغربية في الأراضي المحتلة عام 1948.  اعتقل عام 1986 ووجهت إليه تهم الانتماء إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحيازة أسلحة، والقيام بأعمال فدائية، وحكم بالسجن المؤبد. انهى دراسته للبكالوريوس والماجستير في العلوم السياسية داخل الأسر.

[caption id="attachment_40766" align="aligncenter" width="390"]أم الأسير وليد دقع تحمل صورته أم الأسير وليد دقع تحمل صورته[/caption]