أنتهيت للتو من قراءتي لرواية "رام الله الشقراء" (عبّاد يحيى، دار الفيل/ القدس 2012)، فتذكرت المرة الأولى التي ذهبت فيها الى رام الله قبل عدة أعوام (أظن عام 2007)، مع أنني لا أذكر يومها سبب الزيارة بعد أن ترددت عليها كثيرا في مناسبات مختلفة: ورشات تدريبية، سهرات، المشاركة في أنشطة سياسية وثقافية وطبعا زيارة الأصدقاء.
لكن أذكر يومها انطباعي عن هذه الزيارة "التواصلية" و"البحثية" عن كامل فلسطينيتي، فهي أول زيارة لي للضفة الغربية بعد الانتفاضة الثانية إذ لم نحتسب زيارة جنين قبل الانتفاضة مع العائلة التي اقتصرت أهدافها على شراء أغراض منزلية وملابس وتناول المشاوي في مطعم الأقصى الشعبي لأن الأسعار أرخص من الداخل.
أذكر جيدا كمية التناقضات التي شعرت بها وأنا على حاجز قلنديا خارجا من رام الله عائدا الى القدس، تناقضات تسألني أنا القاصد آنذاك بناء هويتي عبر زيارة الضفة الغربية المُحتلة سرا دون اخبار الأهل الذين بدأوا ملاحظة نشاطي السياسي المتصاعد بعد تخرجي من المدرسة الثانوية اختصارا لدوامة النقاش المستمر حول هذا النشاط، والعابر من الـ48 إلى الـ67. تناقضات في مرحلة سياسية فلسطينية جديدة ما بعد ياسر عرفات وبداية الإنقسام وتوغل جماعة أوسلو في مفاوضاتهم العبثية الماراتونية التي لا يملكون مشروعا سياسيا بديلا عنها كما هو واضح للجميع وفي المقام الأول لهذه الجماعة طبعا، وكما و واضح ايضا.. يتجلى هذا المشروع بشكل صارخ في مدينة رام الله حيث تتلمسه في كل زواياها.
بنايات زجاجية قيد البناء في الطريق من قلنديا الى رام الله، اعلانات ضخمة لشركات عابرة للقارات، مشاريع بناء بدعم من الحكومة الفلانية او الشعب الفلاني، الـ USAID في كل مكان، مؤسسات وقنصليات، الكثير من الأجانب خلتهم وقتها أنهم "أحرار العالم" الذين نسمع عنهم في الخطب الثورية، فاطمأننت يومها على القضية الفلسطينية دوليا!.
لم تغريني مظاهر رام الله "الحداثوية" ولم أبحث عنها بقدر ما كنت أبحث عن ملصقات قديمة ومنها حديثة للشهداء على الحيطان، أو بسطة شعبية تبيع الكوفيات والسلاسل والقلادات ذات الرموز الوطنية وأعلام فلسطين وشراء أكبر عدد ممكن منها كي أحملها معي إلى الـ48، فقبل سنوات لم يكن ايجاد مثل هذه "الزينة" بالأمر السهل في الداخل.
تكررت زياراتي لرام الله، ولم تعد الزيارة سرية، أصبحت أُطمئن أمي وأقول لها "فش اشي بخوف .. الوضع كتير هادي..وأصلا ملان ناس من عنا بنزلو عرام الله .. لازم تروحي انت وابوي شي يوم تغيروا جو". كما أصبحت أسمع العديد من الأصحاب والأقرباء يتحدثون عن تجربتهم خلال العيد (بكل تنوعاته الدينية) في فنادق رام الله ومطاعم رام الله ومقاهي رام الله.
في الزيارات الأولى لرام الله يراودني دوما السؤال "هل ستحدث مواجهات مع الجيش قد أكون جزءاً منها؟"، وفي غالبية زياراتي كانت تحصل مواجهات، لكن ليس مع الجيش الإسرائيلي، بل مواجهات بين الأمن الفلسطيني ومخيم الأمعري. أذكر مساء كنت فيه آكل الشاورما بالقرب من شارع "رُكب" وحصلت مواجهات بين الأمن وشباب من مخيم الأمعري على خلفية قيام الأمن الفلسطيني بالإعتداء على شاب من المخيم يعمل في بسطته على دوار المنارة كونه رفض أن يضع البسطة على الرصيف، فتحول الإشكال الى مواجهة مُسلحة في ذلك الشارع، اعتقدت حينها وأنا آكل لفة الشاورما أن الأمور قد "ولعت" وأننا جميعا في هذا المكان المكتظ بآكلي الشوارما سنهجم على الجيش الإسرائيلي بالحجارة وقناني المشروب الزجاجية التي ستتحول أيضا الى مولوتوف، وسنلقنه درسا فلسطينيا لن ينساه، فما كان من صاحب المحل إلا وأن قام بإغلاق باب الحديد لمحله من الداخل، وأكمل في قص الشاورما من على السيخ الضخم كما أكملت الجموع الجائعة تناولها للشاورما، فقمت بدوري وطلبت المزيد من الصلصة الحارة على صوت أزيز الرصاص في الخارج.
أذكر ليلتها أن المواجهات انتقلت الى المخيم، وظلت حتى ساعات الصباح، إذ كنت أتابع صيحات المناداة عبر أحد المساجد في المخيم داعية "مخيم الشهداء والعزة والكرامة" بالخروج والتصدي للأمن الفلسطيني الذي يلاحق شبابه. لا أعلم لماذا شعرت وأنا في الفندق في تلك الليلة أن صيحات الرابعة صباحا هذه، أصدق من كل الكلام الذي قيل في اليومين الأخيرين خلال الورشة التي كنت آخذها مع احدى الأن جي أوز حول حقوق الإنسان.
ضياع الليزر
بعد زيارتي الأولى لضريح الشهيد ياسر عرفات علمت أن الليزر الذي كان يخرج من ضريحه نحو المسجد الأقصى قد تم إطفاؤه لأنه يزعج المستوطنين، اسرائيل احتجت والسلطة الفلسطينية وافقت. لم أعد أحب زيارة ضريح أبو عمار الذي بُني على شكل سفينة متجهة نحو القدس مع ليزر يصل المقاطعة بالأقصى، فالرجل وإن اختلفنا معه كثيرا، كان حلمه أن يُدفن في القدس، ويوم تشييعه في المقاطعة كانت الجموع تنوي الذهاب بنعشه الى القدس إلا أن القيادات رفضت ذلك كما أخبرني صديق فتحاوي بذلك في احدى الزيارات. كما لم أعد أحب زيارة ضريح محمود درويش، درويش كان يجب أن يُدفن في الداخل، حتى لو رفضت اسرائيل ذلك كان الأجدر بنا أن نحاول وبشتى الطرق، لكن كما يبدو توظيف درويش في رام الله لإضفاء "المعالم الثقافية" على المدينة أهم من كون الصراع بدأ قبل عام 1967.
من منا مثلا قام بزيارة ضريح ابو علي مصطفى خلال زيارته لرام الله أو يعلم أصلا أين ضريحه؟ وسؤالي هنا موجه بشكل خاص لليساريين منا الذين يحبون التوافد على رام الله، فضريحه ليس كدرويش وعرفات ولا يمثل حالة ثقافية تخدم المدينة اللاهثة وراء الممولين الفرنجة أصحاب الأجندات السياسية النابذة "للإرهاب"، عليكم وعليكن يا رفاق أن تبحثوا بأنفسكم لتجدوا الضريح.
المشكلة تكمن اننا أطفأنا الليزر نحو القدس قبل أن يستاء المستوطنون منه وقبل أن تحتج اسرائيل على ذلك، فالليزر نحو القدس مُطفأ مذ قبلنا برام الله عاصمة لنا لدولة على 22% وأقل، وأصبح الليزر موجها نحو مقر المقاطعة التي بنت أسوارا عالية مع حراسة دايتونية، وأصبحت رام الله تحت احتلال جديد ليس من سهل التخلص منه هو الآخر: احتلال ثقافي.
متى نقرع جدران عامود الليزر في المقاطعة يا تُرى؟!