حاوره: طارق خميس
صدرت مؤخرًا المجموعة القصصية “نظريّة اللّعبة” عن دار رئبيال في القدس، وهي العمل الأدبي الأول للباحث في العلوم الاجتماعية وفلسفتها أ. خالد عودة الله؛ حاول عودة الله في عمله الأدبي اقتراح مضامين جديدة فيما يتعلق بقيم البطولة ومواجهة اللحظة، وكان العمل انحيازًا واضحًا للفعل المادي، مقدّمًا إياه على نقاشات الذهن المجردة، فيما حافظ على شكل كنفاني في بناء القصة. حول هذا العمل القصصي واقتراحاته ضمن السياق الفلسطيني، دار الحوار مع عودة الله:
- نعرف أنك باحث في العلوم الاجتماعية وفلسفتها، لماذا ذهبتم للأدب تحديدًا “القصة القصيرة”؛ هل للأدب قدرة على قول شيء لا يستطيع الفكر قوله؟
لقد سرقت الأكاديميا الاستعمارية منا لغتنا وقدرتنا على التواصل مع الناس، بدت لي الكتابة الأدبية أحد الحلول لهذه الإشكالية، هناك مقولة وتحتاج للغة، وهذه اللغة كانت القصة القصيرة.
- نلاحظ أن خيطًا خفيًّا يسكن جميع القصص الموجودة في مجموعة “نظريّة اللّعبة”، وهو فكرة التحول، لدينا تحولات المناضل في قصة “صديد”، وD.C.O”“، و”رائحة الديتول”؛ هل يمكننا القول إن المجموعة هي رصد للتحولات التي يعيشها الفلسطيني؟
لم يكن موضوع التحول هاجسَ العمل، إنما ما كان يشغله أساسًا هو مسألة “الاختيار”، إن التحول دائمًا ما يُرْبَطُ بالظروف الزمانية والسياسية والتيه العام، لكن فيما يتعلق بالاختيار، فإنه يبقى قرارًا فرديًّا. ما هو خياري وموقفي في لحظة تاريخية معينة هو قرار شخصي بامتياز، والمصيبة هو تمادينا في خياراتنا المتواطئة بما يتجاوز بدرجات عقلنة الانكسار ومطالب المستعمِر ذاته.
- ربما هي محاولة لإعادة الاعتبار لمقولة البطولة، بعد انشغال الأدب الفلسطيني حديثًا بالروايات الصغرى والاحتفاء بالبطولة العادية أو اللا بطولة بصيغة أدق؟
البطولة تُخان، في كل لحظة تنشأ فرصة كي تعاش البطولة إلى مداها، وهذا قرار شخصي، يحدث أو لا يحدث، يستجاب للحظة البطولة أو تُخان، هذا يرد مسألة البطولة لبعد أكثر كثافة وجدية يتعلق بالبعد الوجودي للإنسان. إن جزءًا من الإشكالية الأساسية والذي تقترح المجموعة حلًّا له، هو الإزاحة التي جرت لمفهوم الثورة والتمرد من كونها مسألة وجودية مرتبطة بالفرد وموقعه في هذا الوجود، وسحبها لبلاغات سياسية مفرغة المضمون؛ ولذلك يمكننا القول إن نقصان النسبة الضرورية من البطولة هو ما يجعل عملية التحول ممكنة بسلاسة، بل تصبح حتمية الحدوث. لقد عملت المشاريع السياسية على الاستفادة من البطل وتحويله لنموذج كي يخدم استمرارية شرعيتها، وفرضها للهيمنة، لكنني أتحدث هنا عن مستوى آخر للبطولة، وهو المرتبط بالوجود الإنساني والقدرة على التمرد.
[caption id="attachment_36444" align="aligncenter" width="300"] الأستاذ خالد عودة الله[/caption]- قد يكون مما دفع الإنتاج الأدبي الفلسطيني حديثًا لهذه المقاربات، هو أن ثمة احتفاء عالمي بهذه الموضوعات من الأدب، إضافة إلى أن الذائقة العامة باتت تميل لأدب قد أنجز فك ارتباطه مع المقولات السياسية المباشرة؟
لا أعتقد أن العالمية فكرة مجردة، بل هي أساسًا نتاج علاقات تتكون من المعارف، وأصحاب القرار، ودور النشر، وصنعة الثقافة وتقنيات الاستقبال، كلها محكومة بهذا الشكل من العلاقات؛ ولذلك فإن تعريف ما هو عالمي عملية ليست بريئة، ولا تحدث بشكل انسيابي، فلو أردنا تعريف ما هو عالمي بكونه يحمل قضايا الإنسان بما هو إنسان، فإن الأمر برمته سيختلف، وقتها ستجد البطولة -بمعناها العام، والسياسة، بما تحمل من مقولات أيديولوجية – مكانًا لها في ما هو عالمي.
ويمكنني القول إن النزوع نحو البطولات الجزئية ليس تعبيرًا عن خيار أدبي حر بقدر ما هو انعكاس للانكسار، ولا علاقة للذائقة العامة بكل هذا؛ جزء منه نزوع الأديب نحو اللحاق بـ “التقليعات” الأدبية، وهو بذلك لا يدخل بحوار مع الناس، هو يدخل بحوار مع النخبة الثقافية فقط. لننظر حولنا، ما زالت البطولة تحدث، لكن الأدب يغض الطرف عنها، يخونها بلغة أخرى.
- يبدو أن العمل “نظريّة اللّعبة” منحاز للنظرية الماركسية، وعلى وجه الدقة نظرية لوكاش حول وظيفة العمل الأدبي والدور الذي يؤديه داخل المجتمع، وهي مهمة أوكلت للأدب في السياق الفلسطيني في بداياته، وواجهت انتقادات حديثًا، كون ما هو سياسي طغى على ما هو جمالي؟
لا علاقة للعمل بالتزام أي نظرية أدبية ما، هذا يعود لاتساق الكاتب ورؤيته في الحياة، وأعتقد أنه لا معنى للأدب دون دوره الاجتماعي النبيل؛ إن فصل ما هو جمالي عما هو جماعي يعتبر قرارًا إشكاليًّا وبحاجة لفحص. لقد أُعيد النظر في الأدب بوصفه شكلًا، واعتبار الجمالية جمالية الشكل، لكن المضمون أيضًا يحمل جمالية ما، انظر مثلًا لجمالية الموقف، وهي جمالية مكتفية بذاتها، يمكنك في لحظة انفعال أولى أن تلمس كمية الجمالية الموجودة بالتقاء الإنسان أمام لحظة خَطِرَة مقدمًا البطولة على الفرار.
ويمكننا أيضًا النظر للجمال بوصفه إعادة لفتح الأفق، وتوسيعًا لمجالات الرؤيا، هذه الإمكانات الأخرى للأفق والتاريخ هي في صلبها جمالية.
- لكن هذا قد يوقع الأدب في المباشرة، وهو ما يحاول الفرار منه ليمايز نفسه على الأقل عن حقول الخطابة والوعظ؟
المباشرة كانت في مجموعتي القصصية مقصودة لذاتها، وهذا متسق مع المشروع نفسه، الذي يمنح اعتبارًا لواحدة من مهمات الأدب، ألا وهي التربية، سواء صرح الأديب أم لم يصرح، فهو يقوم ببث قيم تربوية من خلال عمله، السؤال هنا فقط عن الطريقة.
لقد كان هدف المباشرة الوصول لتأثير أكبر، وأنا أعبر عن ذلك بكل شفافية ودون مواربة وتمويه، إذ أن مقولة النص المكتوب مقولة غير حقيقة بحكم أن النص مشدود دائمًا إلى أفق تأويلي يخضع لموازين القوى الاجتماعية، ما يعني أن التـأويل لا يمكن أن يكون حرًّا بالمطلق، ولذلك ضمنت النص مرتكزات تأويلية، تساهم في تشكيل الأفق التأويلي.
- في قصة “نظريّة اللّعبة”، وهي القصة التي حملت المجموعة اسمها، نحن أمام شخصية أعادت النظر بكل أسئلة الهزيمة وقررت الفناء الفردي خيارًا وحيدًا وحقيقيًّا في ظل هذه المواجهة المركبة؛ هل القصة أمام اقتراح يفكك إجابات الهزيمة التي ردتها للثقافي، وتقترح إعلاء الاستشهاد باعتباره قيمةً بديلةً؟
لقد حملت القصة إيقاعًا سريعًا لتنسجم مع الفكرة التي تحاول مقاربتها، وهي تنتقد رد تفسير الأشياء للوعي، ولذلك فإن ما يفنى هو الوعي وليس الذات. وتبرز الممارسة المادية الفعلية باعتبارها موقعًا حقيقيًّا لإنتاج الحقيقة، وبذلك تبدو الحقيقة مرتبطة بالممارسة، والمغامرة وفق ذلك شرط أساسي، وهي ليست مغامرة ذهنية فقط، بل جسدية أيضًا.
-هل تحاول قصة “عائد إلى يافا” إقامة تعارض مع “عائد إلى حيفا”، حيث العودة كانت زيارة خاطفة، لتجري حوارًا حول الهزيمة والهوية، فيما العودة التي تقترحونها عودة خلاقة مفتوحة على الفعل المقاوم؟
روحية القصة لا تطمح لإقامة تعارض مع غسان كنفاني، هي تحاول أكثر كشف الخديعة الثاوية في كيفية تصوير العودة واستدخالها في ثقافة الأمر الواقع، وقصرها على المستوى البلاغي والخطابي المبثوث في الاحتفالات والمهرجانات، وهذا وجه آخر لنفي العودة ذاتها. تحاول القصة نقض أيديولوجيا الأمر الواقع والانسداد من خلال حقيقة “المهاجر الإفريقي” التي تشق دفيئتنا البلاغية نحو التجريب وخوض المغامرة. هشاشة الكيان الصهيوني، بكل بساطة، لا يمكن الوعي بها إلا في لحظة التماس معها… وهناك إمكانيات لتحقيق العودة ماديًّا لم تجرب بسبب أيديولوجيا وجماليات الهزيمة في الثقافة الفلسطينية، التي يمكن اعتبارها الخط الدفاعي الأول للمشروع الاستعماري الصهيوني.
- هذا يقودنا إلى قصة “خمسة سنتمرات مربعة من التيتنيوم”، حيث الجندي الذي يحمل داخله أمراضه ومخاوفه التي فجرتها صرخة عجوز على الحاجز، وكأن الفعل الصغير كشف عن تراكمات رثة مغلفة بالقوة؛ هل نلمح هنا محاولة لأنسنة العدو؟
لقد كانت محاولة للتحرر من علم نفس الضحية المطبق على أنفاسنا، ورؤية العدو خارج ساديته التي تحيل أيضًا إلى موقع الضحية. للإزاحة هنا نحو رؤية العدو “مفعولاً به” يتلوى “في جحيم” التفاعل المتسلسل “للفعل المقاوم” تأثيرٌ فعال، وهي تأثيرات لا يجري تفحصها والتعرض لنفحاتها – على الرغم من صغرها – إلا أن مفعولها يؤثر على نظام بأكمله، من صرخة على الحاجز إلى الصاروخ.
لا أرى مشكلة في أنسنة العدو، وعدائيتنا له تتنشط وتأخذ أبعادًا أكثر جذرية بأنسنته؛ إن أنسنته شرط لازم لمقاومته وتفكيكه، إذ تمكنني الأنسنة من معرفة نقاط ضعفه وقوته واستثمارها في فعل المقاومة. في حالتنا فُرِضَ تأطير للأنسنة، وفُرِضَ معنى أحادي عليها من الخطاب الثقافي المرتبط عضويًّا بمشروع فرض التصالح مع العدو، إذ أصبحت الأنسنة تفضي إلى التواطؤ مع المستعمِر.