يذكر شارون بشكل خاص في سياق محاربته للعرب، لكنّه في آخر أيامه حوّل مساره وكان خلف الخطوة التاريخية بالانسحاب من غزة، وبعض مستوطنات الضفة الغربية المحتلة.
بنى رئيس حكومة الاحتلال "أريئيل شارون"، مسيرته التارخية في جيش الاحتلال، وهو منقوش في الذاكرة الجماعيّة، الإسرائيلية والعربيّة على حد سواء، كمقاتل وقائد عسكري، وقف خلف عدد غير قليل من الحروب، ومعروف بالإفراط في استخدام القوة، والقتال غير الأخلاقي، لكن عام 2005، وفيما كان رئيس الحكومة الإسرائيلية، قام بخطوة تاريخية لا تنسى حين قرر الانسحاب الأحادي الجانب من قطاع غزة.
نظرة شاملة إلى حياة الجنرال أريئيل شارون
بداية الطريق
بدأ شارون طريقه في تنظيم "ههاغاناه"، قبل إنشاء دولة الاحتلال، وفي حرب 1948، عمل قائد قسمٍ، وأصيب إصابة خطِرة، ادّعى شارون لاحقًا أنّ الإصابة والمعركة كان لهما أثر كبير في صياغة حياته، بعد شفائه، واصل القتال، وشارك في معارك ضدّ الجيشَين الأردني والمصريّ.
في السنوات الأولى بعد إقامة دولة الاحتلال والجيش الإسرائيليّ، عُيّن شارون قائد كتيبة، وعام 1953 طُلب منه إنشاء "الوحدة 101"، بحيث تتمكّن من إنجاز مهامّ في عُمق الأراضي الفلسطينية، لا سيّما إجراء عمليّات عقابية ضدّ هجمات الفدائيين الذين انطلقوا حينذاك من قطاع غزة والضفة الغربية. تحت إشرافه، أضحت الوحدة 101 أوّل وحدة "كوماندوز" في جيش الاحتلال الإسرائيلي، إذ تخصّصت بعمليات الرد على المتسلّلين الفلسطينيين، من ضمنها الغارة على مخيّم البريج للّاجئين في قطاع غزة، والغارة على الخليل في عام 1953.
في وقت لاحق، عين شارون قائدا لجميع وحدات المظليين، وفي حرب سيناء أشرف على معركة ممر "متلا" الشهيرة، التي مُني فيها الجانِبان، الإسرائيلي والمصريّ، بخسائر فادحة، في وقت لاحق، واجه شارون انتقادًا لاذعا لمبادرته إلى المعركة رغم عدم ضرورتها، بعد فترة متواصلة من تجميد ترقيته، عين شارون قائدا للواء المدرعات ورئيس أركان قيادة الشمال.
حرب 1967 وما تلاها
في حرب الأيام الستة أشرف شارون على كتيبة قاتلت الجيش المصري، ولاقت نجاحًا كبيرًا إذ أجبرت القوات المصرية على التراجع جنوبًا. حظي شارون بالمجد للمعارك التي أدارها في أم كتف وأبو عجيلة. وقد اعتُبرت المعركة واحدة من أنجح المعارك في تاريخ الجيش الإسرائيلي، ودُرّست بعد ذلك في أكاديميّات عسكريّة في أرجاء العالم. في ما تبقّى من الحرب، أشرف شارون على تطهير محور التقدّم الجنوبي لقوّات الجيش الإسرائيلي باتجاه قناة السويس.
بعد الحرب، نقل شارون مراكز تدريب عديدة للجيش إلى أراضي الضفة الغربية التي احتلت في الحرب، وعام 1969 عين قائدا لمنطقة الجنوب، ولعب دورا رئيسيا في حرب الاستنزاف، في بداية السبعينات، كان شارون مسؤولًا عن إحباط الإرهاب القادم من قطاع غزة، وقد أوعز بإدخال قوّات عسكرية ووحدات نخبة إلى القطاع، تمّ إجراء تمشيطات واسعة على طول القطاع، وخرج شارون نفسه إلى الميدان مرشدًا الجنود كيف ينفذون المهام.
حرب تشرين
بعد أشهر معدودة من حرب تشرين، بسبب خلافات حادّة في الرأي مع رئيسَي الأركان "بار ليف" و"دافيد إليعيزر"، قرر شارون الانسحاب من الجيش، معلنا عن إقامة حزب يميني استعدادا للانتخابات التي كانت محدّدة في تشرين الأول 1973، أثمرت مبادرته عن إنشاء حزب "الليكود" في تموز، وعين شارون مسؤولًا عن قسم الانتخابات في الحزب.
يوم الجمعة، 5 تشرين الأول 1973، تلقى شارون إشعارا أنه يتوقع اندلاع حرب وبدأ بتجنيد كتيبة احتياط مصفحة، في اليوم التالي، خرج على رأس كتيبته إلى سيناء وبدأت حرب تشرين، في اليوم الثالث من الحرب، نجحت كتيبة شارون في القضاء على حشد من 35 دبابة مصرية في تل حميدة - أوّل معركة هجوميّة منذ بدء الحرب في منطقة الجنوب، وبدأت قواته تتقدم باتجاه القناة، حين علِم رئيس الأركان بالأمر، أمر بوقف التقدّم، ما تبين لاحقا أنه خطأ، إذ كثف المصريون قواتهم في القناة وألحقوا خسائر فادحة جدًّا بالجانب الإسرائيلي. في اليوم نفسه، ارتفع مستوى الخلافات في الرأي بين شارون وبين قيادة الجيش، ليبلغ حد عدم انصياع شارون للأوامر.
في 14 تشرين الأول، في معركة دفاعية شاركت فيها الكتائب الثلاث في الجنوب، كُبح هجومٌ مصريّ كبير، ودمّرت كتيبة شارون نحو 150 دبّابة مصريّة من الدبابات المصرية الـ 250 التي دُمّرت في الهجوم. مع نجاح معركة الإيقاف، تمّت المصادقة على برنامج اجتياز القناة. أُلقيت على عاتق كتيبة شارون مهمّة اقتحام القناة وإنشاء جِسر. بعد الظهر، بدأت الكتيبة بقيادة شارون المعركة، وكانت المعركة من أعقد وأصعب معارك حرب تشرين. خلال العمليّة كلّها، خاضت الكتيبة معارك قاسية مليئة بالجرحى والقتلى. في نهاية المطاف، حوّلت العمليّة مسار الحرب في الجنوب. في أعقاب اجتياز الجيش الإسرائيلي القناة، بدأت مصر تطلب وقف إطلاق النار. وزير جيش في حرب لبنان
بعد الحرب، ورغم الانتقادات اللاذعة لسلوك جيش الاحتلال الإسرائيلي والحكومة، كان شارون تحديدًا من الذين نالوا صورة إيجابيّة، واعتُبر الشخص "الذي أنقذ الموقف" ومنع خسائر أكبر، كما نجح في الحفاظ على شبه جزيرة سيناء بيدَي إسرائيل. في كانون الأول 1973، انتُخب للكنيست الثامنة عن حزب الليكود. بعد سنة، استقال من الكنيست، وعام 1981، بعد الانتخابات للكنيست العاشرة، عُيّن شارون وزيرًا للدفاع في حكومة مناحيم بيجن الثانية، وأشرف في إطار منصبه على إخلاء المستوطِنين من سيناء، وهدم مستوطنات "يميت" في نيسان 1982. عام 1982، كان شارون، بمصادقة الحكومة، المبادِر إلى حرب لبنان، التي بدأت باسم "عملية سلامة الجليل" - عمليّة عسكريّة للقضاء على التنظيمات الفلسطينية في جنوب لبنان، حيث أنشأت منظمة التحرير الفلسطينية مقاطعة هدّدت سكّان الشمال المحتل، بدأت الحرب في أعقاب محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن، شلومو أرجو، التي دفعت إلى ضرب منشآت منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، ما أدّى إلى إطلاق وابلٍ قويّ من صواريخ الكاتيوشا على الشمال.
وفق إعلان بيجن في الكنيست، تمّ حصر العمليّة بدخول قوّات الجيش حتّى 40 كيلومترًا شمال الحدود مع لبنان، مسافة أبعد من مدى صواريخ الكاتيوشا التي كانت بحوزة الفلسطينيين، أمّا على أرض الواقع، فقد عمل جيش الاحتلال أبعد من ذلك ووصل إلى العاصمة بيروت، بهدف القضاء كُلِّيًّا على وجود منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان. في أعقاب العمليّة، بقيت قوّات الاحتلال في عُمق لبنان نحو ثلاث سنوات، ما أدّى إلى خوضها حرب عصابات صعبة مع عناصر مختلفة، بينها حزب الله. أدّت الخسائر التي لحقت بالجيش وما اعتُبر عدمَ توقّع البقاء في عُمق لبنان، إلى جانب شائعات مفادها أنّ شارون ضلّل رئيس الحكومة، "بيجن"، حول مدى تورّط الجيش الإسرائيلي في لبنان، إلى هبوط حادّ في شعبيّة الحرب وإلحاق الأذى بالمكانة الشعبيّة لشارون. مجزرة صبرا وشاتيلا
خلال مكوث جيش الاحتلال في بيروت، في أيلول 1982، ارتكب حزب "الكتائب اللبنانية" مجزرة في مخيمي اللاجئين الفلسطينيين صبرا وشاتيلا في المدينة، حدثت المجزرة بعد اغتيال بشير الجميّل، قائد "القوّات اللبنانيّة" التابعة للكتائب، الذي انتخب رئيسا للجمهورية بدعم "إسرائيل"، في أعقاب اغتيال الجميّل، سيطر جيش الاحتلال على بيروت الغربيّة، ذات الأكثرية الإسلاميّة. أوكل شارون مهمّة "تطهير" مخيّمات اللاجئين من المقاتِلين الفلسطينيين إلى قوات الكتائب، التي دخلت مخيمي صبرا وشاتيلا مساء 16 أيلول، وبدأت بالقتل عشوائيّا خلال وقت قصير، وخرجت القوّات من المخيمَين بعد يومين بناء على طلب من شارون، وخلال اليوم فقط بدأت أبعاد المجزرة بالاتضاح، إذ استشهد وفق التقديرات بين 700 و800 شخص، بمن فيهم نساء وأطفال كثيرون.
عام 1998، عين شارون وزيرًا للخارجية، وشارك مع بنيامين نتنياهو في بلورة بنود اتّفاقية واي بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. في إطار عمله وزيرًا للخارجية، عمل شارون على تعزيز السلام في المنطقة وسعى إلى دعم مشاريع إقليميّة مشتركة في شأن المياه.
عام 2000، وحين كان زعيم المعارضة في عهد حكومة "إيهود باراك"، صعد "أريئيل شارون" إلى الحرم القدسي الشريف (ساحة الأقصى) في زيارة إعلامية قال فيها: "جبل البيت في يدنا"، وأعلن أنّ "لكلّ يهودي الحقّ في زيارة جبل البيت"، الأمر الذي أثار اضطرابات في الحرم القدسي، أدت إلى اندلاع انتفاضة الأقصى وإلى سنوات طويلة من المواجهة الدموية بين الجانبين.
رئيس الحكومة شارون
عام 2001، وبعد انتخابات وعد فيها شارون الشعب الإسرائيلي بـ"السلام والأمان"، انتُخب رئيسًا للحكومة. ألّف شارون حكومة وحدة مع حزب العمل، ما منحه وحكومته شرعيّة لدى الإسرائيليين وفي العالم على حدّ سواء، خلال سنوات الانتفاضة، التي لحقت فيها خسائر بشريّة فادحة في الجانب الإسرائيلي، بسبب العمليات الفدائية التي نفذتها التنظيمات الفلسطينية داخل المدن المحتلة عام 1948 بشكل أساسيّ، عمل شارون على إضعاف السلطة الفلسطينية، ساعيا إلى إظهار الصلة بينها وبين العمليات الفدائية، وإلى نزع الشرعية عنها في العالم.
في آذار 2002، بعد تفجيرٍ قوي جدا، وبعد شهر قتل فيه أكثر من 120 جنديا إسرائيليّا، قرّرت حكومة شارون احتلال الأراضي الواقعة تحت سيطرة السلطة الفلسطينية (أراضي A) في عملية الدرع الواقي.
الانسحاب من غزّة
عام 2002، بدأ شارون بإنشاء جدار الفصل الذي يفصل بين الداخل المحتل والضفّة، وعام 2003، انتُخب شارون لولاية إضافيّة.
وفي خطاب ألقاه نهاية 2003، أعلن شارون أنه يعتزم، إن لم يجِد شريكا فلسطينيا ملائما، الانسحاب الأحادي الجانب في المستقبل القريب من أجزاء من الأراضي الفلسطينية وحتى إخلاء مستوطنات - برنامج دعاه "فكّ الارتباط". ناقض برنامجه الأيديولوجية التي دافع عنها بحماسة طيلة حياته السياسية والتي على أساسها انتخب، وأدّى إلى اهتياج حاد في اليمين.
بالتوازي مع طرح فكرة الانسحاب، واصل سياسته الإجرامية ضد الفلسطينيين، وأوعز، على سبيل المثال، باغتيال الزعيم الروحي لحركة حماس، أحمد ياسين وخليفته عبد العزيز الرنتيسي، كما قاد عمليات تطهير في رفح وشمال القطاع.
في تشرين الثاني 2004، مع وفاة ياسر عرفات، أصر شارون على رأيه بتنفيذ خطة فك الارتباط، ولم يستبعد التفاوض مع القيادة الفلسطينية،. في كانون الأول، ضم إلى حكومته حزب العمل برئاسة شمعون بيريس، تمت الموافقة على الحكومة الجديدة، التي كان هدفها الرئيسي تنفيذ الانسحاب.
في شباط 2005، صادقت حكومة الاحتلال والجيش على الخطة، وبدأ تنفيذها في آب 2005، وسط خلافات حادّة في الرأي العام الإسرائيلي. استُكمل إخلاء المستوطَنات خلال ثمانية أشهر، ثمّ جرى إخلاء جميع قواعد الجيش الإسرائيلي من القطاع.
عام 2005، انشقّ شارون عن الليكود، وأنشأ حزب كاديما، كحزب وسطي عريض، يدعم العمليّة السياسيّة مع الفلسطينيين. تمثّل مغادرة شارون الحزب اليمينيّ الذي كان أحد رموزه التغيير الجوهريّ الذي مرّ به شارون من رجل أمن وحرب إلى داعمٍ للسعي في أثر السلام مع الفلسطينيين.
توفي "شارون" لكنه لم يتمكن من تحقيق برنامجه بالتحدّث إلى الفلسطينيين، وليس لأسبابٍ سياسيّة، ففي 18 كانون الأول 2005، أصيب شارون بنوبة دماغية، إثر ذلك، كان يُفترَض أن يجتاز عمليّة قسطرة في القلب ويتناول أدوية لتمييع الدم، في 4 كانون الثاني 2006، أصيب بنوبة دماغيّة ثانية خطيرة، بسبب نزيفٍ دماغيّ. إثر عجزه عن القيام بمهامه، نقلت صلاحياته كرئيس للحكومة إلى القائم بأعماله، إيهود أولمرت. وبعد علاج الطوارئ الذي خضع له شارون، دخل في سبات استمر ثماني سنوات، لم يفق منه، حتّى وفاته اليوم.