حافظ أبو صبرا:
قليل ما أذهب نحو التقمص في مقالاتي القليلة العدد التي أكتبعها تبعًا للحالة التي تعتريني عند مشاهدة أو قراءة حدث او موضوع معين على فترات متباعدة، لكن ما أود التطريق إليه يجبرني لفعل ذلك لا بل يشرفني أيضًا.
كم كنت طفلًا حينما سرقت حريته، كنت طفلًا حتى الطفولة حينها، وانا الآن بعمر سجنه، بعمر زنزانته، بعمر أسره، بعمر وفاة حريته.
أنا الآن يخيّل لي ما يفعله على بعد أربع وعشرين ساعة مما إنتظره لأربعة وعشرين سنه، هل لا زال يعقل في خياله ما سيراه، هل كل ما تركه كما كان، هل يعي حجم المشاهد التي سيحياها في طريقة نحو المنزل الذي لربما لم يعد كما تركه سابقًا منذ عقدين ونصف؟.
هل يرسم طريقه فوق جدران الزنزانة، هل يعلم بأن طريقه للمقاطعة قد تدوم في عقله مئة عامٍ ليستوعب مدى ما أحدثه الزمان والإنسان من تغيير وتطور، هل سيصدمه مشاهد المستوطنات تحيط بمقر الرئيس بأفق ليس ببعيد؟
فلنقل بأنه خطًأ شاهد خريطة الوطن مرورًا بإحدى شوارع رام الله المقامة على أنها العاصمة، هل سيخيل له كم أكل المستوطنون من أرض قضى نصفي من الثلثين من عمره أسيرًا لأجلها؟ هل يعي الإبراهيم هذا أن محبوبته نابلس بعد الساقوف سقفت حتى النخاع؟ هل يخطر له بأن البلدة القديمة لم تعد كما كانت، لا الياسمينة ولا الحبلة ولا أي حارة أخرى، لا سوق الخان كما كان ولا أي من الأحواش على نفس الهيئة بقيت؟
لا أظنه يعرف شيئًا عما يسمى بنابلس الجديدة، ولا عن المساكن الشعبية، كانت في عصره ضربًا من الخيال أن يذهب أحدهم ليبتني له بيتًا هناك في اعالي الجبال، أو هناك في عمق الوادي الي ينهي حدود نابلس المدينة.
أظنها الساعات الأصعب في عمر الطقطوق وكل من هم على قيد الحرية ليوم آخر سيرونها غدًا في السجن من الأسرى، لا يعون مدى التغيير الذي سيجتاحهم فقط حينما يلقون النظرة الاولى على مدنهم وقراهم وبلداتهم ومنازلهم وشوارعهم ووطنهم فلسطين؟ سمعوا الكثير، وحدثهم زائريهم الكثير دومًا، لكن صدمة النظر أدهى وأشد وطأة من صدمة السمع.
يعتريني هنا شعور الفضول، لأن يروي لي إبراهيم ما كان مسبقًا، وما سيكون بالنسبة لديه، فكل ما تركه أصبحلونه أصفر، شاب شعره، كبر جدًا، مات أو رحل، اول ولد من جديد ليكبر أكثر في إبتعاده عن ناظر الأسير الأقدم.
لا أجد كلمات أعبر بها عن شعور من ماتت الحياة لديه في الخارج وبقي حي الجسد في غرفة والروح في خيال سحيق العمق كأنه وادي من القصص الغابرة، عن شعور من عادت له الروح والحياة والحرية والأمل والعيش بعد أن قضى يوبيل الأسر البرونزي في سجن أشد ما يلتف الأنظار فيه عتمته وصلابته سجنائه وحقارة سجانيه.
لا بد لي وللجميع أن يقفوا مصفقين، فما كان قبل 24 عامًا لم يأخذ صداه كما يستحق، فبطل كإبراهيم وما فعله يستحق أن يقف له كل الشعب في الطريق من الخليل لبيت لحم لرام الله نحو المقاطعة مصفقين لصبره ونبله وبطولته، ثم يقف الآخرون من الطريق في مقر الرئيس برام الله نحو ميدان الشهداء في نابلس مزغردين يرشون الورود فوق رأس طائر الفينيق هذا، جاعلين بنادقهم تدق السماء مهللة وفرحة بعودة من يستحق العودة ممثل الشهداء ممن رحلوا، فارس الأسرى وأول المغادرين مغارات الصمود.
إن ما أريده يا سيدي العزيز إبراهيم الطقطوق هو أن أوصل بأنك فيلم سينمائي، بما فعلت منذ ربع قرن، وما تحياه في هذه اللحظة قبل ساعات من نيلك للحرية، وما ستحياه في الطريق من السجن إلى الفضاء، ما ستحياه من ردات فعل أيّما كان نوعها، سلبًا أو إيجابًا، بأحاسيسك ومشاعرك ونظراتك ومفاجأتك واستغرابك واشمئزازك وحبك وحنينك وشوقك وهيجانك وإنتفاضتك يستحق أن يسجل للتاريخ، فأنت كتاب للأسر والأسرى، تحتاجك المكتبة دومًا كي توّلد من نضالك رجال يكتبون معادلاتك فوق تراب فلسطين بكيلومتراتها السبعة والعشرين أو ما يعرف بوطننا فلسطين التاريخية.