شبكة قدس الإخبارية

"مستمرّون... مستمرّات" حتى إسقاط برافر

عروبة عثمان

كانت مسافة زمنيّة بسيطة تلك التي فصلت إحياء الفلسطينيين لشعار "برافر لن يمر" عن "برافر لم يمر". تنفّس الفلسطينيون الصعداء رافعين "برافر لم يمر" عالياً لفترةٍ وجيزة، ثم ما لبثوا أن أزاحوا "لم" جانباً وأعادوا ما انطلقوا منه قبل أشهرٍ عدّة. الشعار الأول ما يزال حيّاً ومتصدّراً للمشهد، ففصول النكبة الجديدة لم تسقط بعد.

وها هو وتد الخيمة في النقب يخوض معركة البقاء، ومعه الشباب الفلسطيني الثائر يصدح بصوته: "أن نكون أو لا نكون". ولأنهم أجمعوا على ضرورة إحالة الاحتمال الأول إلى واقعٍ معاش في الشوارع ملتحفين الأرصفة والطرقات، لم يضيقوا ذرعاً بالعودة للشوارع مجدداً باعتبارها أمّ البدايات والنهايات تحت لافتة "مستمرّون... مستمرّات".

قرار قَرْع جرس العودة إليها اتخذه الشباب بعد أن بدا واضحاً أن "برافر" لم يسقط. وحده بيني بيغين من سقط من منصبه سقوطاً مدويّاً وأخفق في المهمة التي أوكلها إليه نتنياهو. بيغين الذي كان مسؤولاً من قبل حكومة الاحتلال عن الدفع باقتراح "قانون برافر" في الكنيست لجنيّ المصادقة عليه بالقراءة الثانية، كان قد أعلن قبل نحو أسبوعين عن إنهاء المداولات والنقاشات على القانون في الكنيست، بعد أيامٍ عجّت فيها التقارير التي تفصح عن حجم الانقسام الدائر في الائتلاف الحكومي الإسرائيلي حول المخطط.

فماذا وراء إعلان بيغين؟ وهل هي محاولة لامتصاص غضب الفلسطينيين؟ يجيب مروان أبو فريح من النقب وهو أحد الشباب الناشطين في الحراك المتصدي لبرافر في حديثه لـ"شبكة قدس": "برافر لم يجمّد. يستخدم الاحتلال سياسة "الهدنة" لا أكثر، فوسط هذه المعمعة الإعلامية الأخيرة التي شهدها الاحتلال أمام العالم، كان لا بد من خطوة ما لتجمّل وجهه".

ويتفق الناشط الشبابي زيد الشعيبي من رام الله والمشارك في حملة مناهضة "برافر" مع أبو فريح، قائلاً: "تطلّب من حكومة الاحتلال الرد سريعاً على المتغير الجديد، بعد أن أعاقت التحركات الأخيرة المتصاعدة في الداخل المحتل والنقب سير المخطط حسب الخطة الإسرائيلية، وخصوصاً كشفها كذب ادعاءات الاحتلال بأن بدو النقب موافقون على المخطط الاقتلاعي. يسعى الاحتلال الآن للالتفاف على مشروع القانون بطريقة ذكية وتلميع بعض جوانبه لإعادة حشد رأي عام مؤيد، فضلاً عن امتصاص الغضب المتصاعد وتشتيت وحدة صفوف أصحاب الأراضي بالنقب وشراء ولاءات". كما أن الحراك الشعبي الجماهيري ومظاهرة حورة بالتحديد شكّلت نقطة تحول وساهمت في الدفع بديناميكية العمل البرلماني لتشكيل جبهة رفض داخل ما يسمى ائتلاف حكومي، وذلك بحسب أمير أبو قويدر أحد الشباب النقباويين.

وأضاف أبو قويدر لـ"شبكة قدس": "تجميد العمل في المسار التشريعي لا يعني بالضرورة قطيعة المخطط الذي يعود بتقليعاته المختلفة إلى نكبة 1948، غير أن التراجع المرحلي يعدّ إنجازاً للحراك الشعبي الذي شكّل حالة مغايرة وساعد على صياغة مزاج عام جعل من قضية برافر همّاً وطنياً".

الشباب في الاتجاه الصحيح

صحيحٌ أن ثمة من علت الفرحة على وجهه يوم الخميس الماضي 12 ديسمبر حينما أعلن بيغين تجميد النقاش حول المخطط، معتقداً أن بذرة "برافر" أبيدت، غير أن السواد الأعظم من شباب الحراك المتصدي للمخطط كان متوجسّاً، إلى أن جاءت اللحظة التي تثبت صدقيّة تلك التوجّسات والتخوفات. تصريحات بيغين كانت رخوةً بعض الشيء، حيث قصر حديثه عن وقف البت في المشروع دون أن يوضح إن كان تجميد البت فيه يقود إلى تمزيق المشروع والتخلّص منه للأبد كما مزّقه بعض النواب العرب في الكنيست وقالوا بملء فيهم «بلّوه واشربوا ميته»، وذلك في 24 من شهر حزيران الماضي أثناء إقراره بالقراءة الأولى، أو تأجيل عرضه إلى حين ميسرة، خاصةً أن لا شيء على الأرض يوحي بسحب المشروع بشكل رسمي. ما سبق أكده قبل يومين أوفير أوكينوس نائب وزير في مكتب رئيس حكومة الاحتلال، المنسق بين الحكومة والكنيست، حينما أعلن أن وزير الزراعة إسحاق شامير قد حلّ مكان بيغين للمضي قدماً في دفع عجلة حلّةٍ جديدة من المخطط للبدء الفعلي في حصر فلسطينيي النقب الذين يشكّلون 30% من سكان النقب في 1% من أراضيهم.

كل ّ ما يدور في أروقة الائتلاف الحكومي الإسرائيلي يؤكد أن نتنياهو عازمٌ على استئناف إجراءات تشريع مقترح "برافر"، وربما استحداث نسخةٍ أشد سوءاً من الأولى، تجاوباً مع مطالب اليمين المتطرّف الذي يرى أن المخطط بصيغته الحاليّة «أعطى البدو ما لا يستحقونه، وأنه يجب عدم منح البدو تعويضاً عن أراضيهم التي سيتم الاستيلاء عليها من قبل حكومة إسرائيل"، حيث لوّح حزبا "البيت اليهودي" و"إسرائيل بيتنا" بزعامة وزير خارجية الاحتلال أفيغدور ليبرمان- الشريكان في الحكومة- أكثر من مرة بإسقاط المشروع في حال تم إبقاء 150 ألف دونم من أصل 900 ألف بأيدي أصحابها الفلسطينيين في النقب، ومهدّدين كذلك باقتلاع البدو من جذورهم في غضون ستة أشهر، وإقامة مستوطنات جديدة أو توزيعها على عائلات استيطانية لغرض إقامة مزارع خاصة لليهود.

كما أن المعارك الطاحنة والدائرة بين بيغين ودورون ألموغ ممثل نتنياهو لتطبيق "برافر" التهجيري توحي بسير الحراك الشبابي بالاتجاه الصحيح وعدم انحراف بوصلته بالمطلق. ألموغ الذي صرّح بعدم تلقيه أية تعليمات بسحب مشروع القانون كان قد صفع بيغين على وجهه، قائلاً: "فليقل بيغين ما يحلو له. أنا أواصل السير قدماً في تطبيق هذا المخطط". هذا التصريح عزّزه قول رئيسة لجنة الداخلية في الكنيست ميري ريغيف "لم تطلب الحكومة منّا سحب هذا القانون".

سقوط الساسة

خاض الشباب وحدهم رحلتهم المناهضة لبرافر، فيما انبرت القيادة الفلسطينية الرسمية إلى إحياء عملية السلام الوهمية دون أدنى درجات الاكتراث إلى إعادة إنتاج النكبة من جديد في الألفية الثالثة. حقّق يوم الغضب الأخير (30 تشرين الثاني) زخماً تمرديّاً على الاحتلال، متفوّقاً على يومي الغضب السابقين (15 تموز، 1 آب)، حيث شهد قمعاً واعتقالاً تعسفيّاً للمحتجّين في الداخل والنقب، وما يزال 9 نقباويين معتقلين منذ أواخر الشهر الماضي، بينهم ثلاثة قاصرين، وهم: مصطفى الأعسم، محمد العطاونة، وأمير السيد، عاطف أبو عايش، عبيدة الهواشلة، أسامة النصاصرة، سمير السيد، خيري السيد، أحمد السيد.

ويرى أبو فريح أن سقوط قادة السياسة تمّ على أيدي الشباب، بعد أن شرّب الاحتلال هذه القيادات مبدأ الكتمان والخوف ومراعاة شعور الآخرين، مستشّهداً على ذلك بطلب أحد القادة منه إخفاض علم فلسطين مراعاةً لشعور الاحتلال. وفي هذا السياق، يقول الشعيبي إن الحراك الشبابي نحّى القيادات التقليدية جانباً التي ترى أن درب الدبلوماسية هو الدرب الأسلم في التعامل مع القضايا الوطنيّة، لافتاً إلى أن شباب الأحزاب في الداخل المحتل نجحوا في تخطي حزبيتهم وقياداتهم، ورنوا نحو هدفٍ واحد؛ ألا وهو إسقاط "برافر".

لمحة عن المخطط

"مخطط برافر" هو مشروع قانون إسرائيلي أقرته الكنيست بالقراءة الأولى في 24 حزيران من العام الحالي، بناءً على توصية من وزير التخطيط الإسرائيلي إيهود برافر عام 2011 لتهجير سكان عشرات قرى البدو في النقب، وتجميعهم في ما يسمى "بلديات التركيز". تدّعي حكومة الاحتلال أن الغرض من «مخطط برافر» هو تسوية النزاع المتواصل بين بدو النقب والسلطات الإسرائيلية في شأن ملكية الأراضي في النقب، وبالتالي التخطيط لمستقبل قرى البدو ومضاربهم في النقب.

في المقابل، يؤكد أهالي النقب الأصليّون أن المخطط يهدف إلى نهب ما تبقى في حوزتهم من أراضٍ، إذ قد تم مصادرة نحو 800 ألف دونم (أي نصف الأراضي التي تبقت لهم بعد المصادرات التي تمت عام النكبة) وتهجير ما بين 40 - 75 ألفاً من 35 قرية ترفض الدولة العبرية، منذ إقامتها، الاعتراف بها وتحرمها بالتالي من أبسط الحقوق الفردية والجماعية ومقومات الحياة، من شبكات مياه وكهرباء وصرف صحي وتراخيص بناء وخدمات تعليم وغيرها.