شبكة قدس الإخبارية

الحياة العربية ... جرحاً مفتوحاً/ أدونيس

هيئة التحرير
ـ 1 ـ يسيل دمُ القتيل في بيته، أو في الشــارع. يُقَطَّرُ في كأسٍ خياليّةٍ ـ واقعيّة. تتحـــوّل الكأسُ إلـــى بيــتٍ خياليّ ـ واقعيّ. يصــــبح الشـــارعُ مدينـــةً خياليـــّة ـ واقعيّة. تتجـــمّع المدينة لكي تُصغي إلى ما يقوله خطيبُها الخياليّ ـ الواقعيّ: القتْلُ في هذه اللحظة، هو نفسُه العمران والهواء والضوء. ـ 2 ـ بين الطّاغية والشهيد، عندنا نحن العرب، تاريخيّاً، علاقةٌ عضويّة كما لو أنّ أحدَهما ضروريٌّ لإنتاج الآخر: الأوّل أرضيٌّ ـ سماويٌّ، والثاني، على العكس، سماويٌّ ـ أرضيّ. أهو لغزٌ تصنعه الأرضُ ـ السماء، أهو لغزٌ تصنعه السماء ـ الأرض؟ أهو لغزٌ مشترَك؟ هل تعيش الألغازُ في الخيال، كما يرى بعضُهم، أم تعيش في الواقع، كما يرى بعضٌ آخر؟ هل الخياليُّ هو الصورة الأكثر واقعيّةً للواقع، أم هل الواقعيّ هو الصورة الأكثر خياليّةً للخيال؟ في كلّ حالٍ، نحتاج في فهم الوضع العربيّ، إلى أن نحسنَ رؤيةَ الفُروق في العمق، لكي نحسِنَ رؤيةَ الهَباء الذي يرقص على السّطح. ـ 3 ـ ألَمْ يَحنْ دورُكِ، أيتها السماء، لكي تغسلي قدَمَيْ الأرض؟ لكي تقولي لنا كيف نفسّر تلك اللحظةَ الوحشيّة من حياة الإنسان، اللحظة التي يكون فيها قاضياً وجلاّداً؟ ـ 4 ـ لا يكفي أن يُقالَ عنك: دخلتَ التاريخ. ينبغي أن نسألَك، أوّلاً: ماذا أدخلتَ عليه؟ ـ 5 ـ غَزْوٌ هائلٌ وجامحٌ للأرض العربيّة: غزْوُ الذاكرة. أخطرُ ما في هذا الغزْو، انعدامُ القدرة عند بعضِهم على التمييز بين الفراشة والوَحْش. ـ 6 ـ الخطـــوةُ الأولــى لاختراق الحدود التي يرسمها عالَمُ المعرفة هي زَحزحةُ هذه الحدود، في اتّجاه مزيدٍ من الاختراق. ـ 7 ـ هل الارتباطُ، حياةً وفكراً، بما انتهى ولا يمكن أن يعود، علامةُ «أصالة»، أم علامةُ «جَهَالة»؟ ـ 8 ـ هل الصحراءُ اسمٌ آخر للأبوّة؟ ـ 9 ـ إذا صحّ أنّ «التاريخ الصحيح للإنسان هو تاريخ عمله» فما يكون تاريخُ الإنسان في هذه المنطقة العربيّة، اليوم؟ ـ 10 ـ أعيد، في هذه الآونة، قراءة الكاتب الفرنسيّ جورج باتايّ. استوقفتني أفكارٌ كثيرةٌ بينها كلامُه على «الهِبة». فهو يرى، بتأثير من مارسيل موسّ، الباحث الأنتروبولوجي المشهور، أنّ الهِبَةَ جوهرُ التّواصُل الاجتماعيّ، ذلك أنّها نقيضُ المصلحة. المصلحةُ تندرج في ثقافة الاستعباد، أمّا الهِبَةُ فتندرجُ، على العكس، في ثقافة التّحرير والحريّة. ولهذا يحوّلها باتايّ إلى وظيفة ثوريّة ضدّ الذين لا يقدّمون أموالَهم إلاّ لخدمة أهوائهم ومصالحهم. يذكّر هذا المفهوم للهبة بالطّائيّة، (نسبةً إلى حاتم الطّائيّ)، فقد كان يقول لعبده، عندما يشتدّ البرد، وتشتدّ الحاجة إلى النار: «أوْقِدْ، فإنّ الليْلَ ليلٌ قَرُّ إنْ جَلَبَتْ ضَيْفاً، فأنتَ حُرُّ» يتحرّر العبد، إذا جلبَت النارُ التي يُشْعلُها ضيفاً: نموذَجٌ عربيٌّ للضيافة، وللشهامة، للكرَمِ والعطاء والحرّيّة. محلَّ هذه «الهبة»، اليوم، يحلّ الإنفاقُ الكارثيّ، جواباً عن سؤال: «ما المفيد سياسيّاً وتجاريّاً؟» أو : «مـاذا يخدمني»؟ «المصلحة» تحلّ محلّ الحرّيّة. ـ 11 ـ فــي كلّ ما يتعلّـــق بالمستقبل، أؤثر أن أكـــون صـــديقـــاً للشـكّ، أو «تجربة اللامعـــرفة»، وفقــــاً لمصطلَح جورج باتايّ نفســه. فهي التجربة الوحيدة الممكنة، إزاء الرُّكام العبثيّ من المفارقات، ـ الركام الذي اسمُه: الوضع العربيّ. ـ 12 ـ أمـران يفرضهما هذا الوضعُ العربيّ: الأوّل، هو أنّ الحربَ الملحّة التي يحتاجُ إليها العربيّ، الآن، هي الحربُ على نفسه، الثاني، هو أنّ النّضالَ ضدّ الفاشيّات في مختلف أنواعها، وضدّ القوى الاستعماريّة، لا يمكن أن ينفصل عن النّضال ضدّ تعفّن الديموقراطيّات، وتحوّلها في كثير من البلدان، إلى أشكالٍ منحطّة، شبه ديكتاتورية، وفي كثير من بلدانٍ أخرى، إلى مجرّد ألفاظٍ وشعارات. ـ 13 ـ ما السرّ في أنّ الوجع الفرديّ، في مختلف أسبابه وأشكاله، هو الذي يُهَيْمِن على حياة العربيّ ويسيّرها؟ ـ 14 ـ الفكر، الفنّ، عملُ فردٍ. عملٌ فرديٌّ، بدئيّاً. أليس السيرُ، إذاً، مع الجمع، سيراً ضدّ الفكر والفنّ؟ وماذا تعني قضيّة، أيّاً كانت، تخضع لمثل هذا السير؟ ـ 15 ـ فـــي السياســــة العربية تحلّ «الرغبة»، دائماً، محلّ «الحكمة»، وتحلّ «المصلحة «محلّ» الحقيقة»، وتحلّ «المسبّقات الإيمانيّة» محلّ التجارب الحيّة. وفي هذه الحالة، ألا يكونُ التفيّؤ في ظلّ السيـاســــة العربيــــة شـبيهاً بالتفيّؤ فــــي ظلّ مسمار؟ ألا يكون انتظار الثـــورات شبيهاً بانتظار عواصف رمليّة؟ ـ 16 ـ إذا صحّ أنّ حياة الإنسان «جرحٌ مفتـوح» كما يقول جورج باتايّ، أفلا يكون القبولُ بسيادة نظام فكريّ مغلق على حياتنا، قبولاً بتحويلها إلى قبر مفتوح؟ ـ 17 ـ في الملتقيات، كمثل المفترقات، ننشطر ونتبدّد: كيف لا ننضمّ إذاً إلى معسكرات الغيوم؟ ـ 18 ـ كلّ يومٍ تؤلّف عذاباتُنا كتباً لا يعرف أحدٌ أن يقرأها، إلاّ النهار والليل. ـ 19 ـ أمسِ فتحَ لي الحلم بابَ غرفته، وطوّقني بذراعيه قائلاً: «عندك شفتان لكي تقبّل الضوء، ولكي تتحدّث مع الفضاء»، قال أيضاً: «الكتابُ العظيمُ كمثل طريقٍ بلا نهاية، هو اللغة. إقرأ. القراءة شكلٌ من أشكال الولادة، الــــــقـراءة المــستـــمـرّة ولادةٌ مستـمــرة». لكن، قل لي، أيها الحلم لماذا ترفع الحيرةُ أعلامَها على شطآن كلماتي؟ وقولي، أنتِ أيتها العاشقة: بأيّ منديلٍ تريدين أن أمسح التّعبَ عن وجهي، إن لم يكُنْ منديلَ حبِّكِ؟ ـ 20 ـ عنــدما يصــرخ الإنسان، لا يتوجّه إلــى أحدٍ بعينِه. يتوجّه إلى فضاء البشر. هل الشعرُ شبيهٌ بهذا الصّراخ؟