تقرير: صوفيا جونز، الفورين بوليسي. ترجمة: عزة مغازي.
تقف سهى في غرفة قذرة في محطة شرطة "كرموز". عيونها حمراء اللون بسبب البكاء لأيام طويلة، وطفل صغير يدلك يديها في محاولة لتهدئتها.
"ماتوا بين ذراعيّ" تقولها بضعف بينما تنحدر الدموع على جانبي وجهها "مات ثلاثتهم".
سهى لاجئة سورية من أصل سوري، فرت مؤخراً من أهوال الحرب في سوريا لتجد المزيد من الاضطهاد والبؤس في مصر. هي واحدة من آلاف اللاجئين السوريين الذين خبروا الرحلة القاتلة التي تستمر أسبوعين في قارب عابر للبحر إلى اوروبا بحثا عن حياة أفضل.
في الحادي عشر من أكتوبر صعدت سهى بصحبة 1600 لاجئ آخر إلى قوارب متداعية تنتظر على شاطئ الإسكندرية. القوارب اصطحبت المجموعة إلى زورق أكبر حجما متجهاً إلى سواحل إيطاليا. من هناك خططت سهى للسفر إلى السويد التي أعلنت عن استعدادها منح اللجوء للسوريين الواصلين إلى أراضيها. كانت تعرف أنها رحلة خطرة: قبل أسبوع، غرق قارب آخر كان يحمل مهاجرين أفارقة غادروا من الساحل الليبي ليغرق قاربهم أمام ساحل جزيرة لامبيدوسا بإيطاليا، منهيا حياة 350 شخصا.
الكابوس كرر نفسه في رحلة سهى. اللاجئون مكثوا في االقارب الكبير لسبع دقائق فقط قبل أن يبدأ في الغرق. وقالت وسائل إعلام مصرية أن 12 شخصا قُتِلُوا خلال الواقعة. رغم أن اللاجئين قالوا إن عدد المتوفين يتجاوز ذلك الرقم كثيرا.
البحر مغلف بالظلام، وسهى تلهث من أجل بعض الهواء بينما تتعلق ببناتها الأربع (أعمارهن 3،5،6، و8 سنوات)، لم تكن تعرف كيفية السباحة، وتمنت أن تتمكن سترة النجاة التي ترتديها من حماية حياتها وحياة بناتها، لكن سرعان ما أيقنت أنهم في الغالب سيغرقون جميعا.
واجهت سهى خيارا مستحيلا، هل عليها أن تختار طفلا واحدا وتكافح كي تنجيه، وتترك الثلاثة الآخرين يغرقون؟ لم تتمكن من ذلك، فهذ يخالف كل ذرة من غريزة الامومة يحويها جسدها.
غمرتها الأمواج، جاذبة واحدة من طفلاتها بعيدا عن قبضة سهى المستميتة، الفتاة الثانية حاولت التمسك بساق سهى، لكنها فقدت قدرتها على القبض على الساق الممتدة، وفي ذات اللحظة غلبت مياه البحر جسد الطفلة الثالثة لتغرق بينما تمسك بها أمها. هيا وسما وجوليا فُقِدْن في البحر، ابنة واحدة – الكبرى- بقيت على قيد الحياة.
لست ساعات، طفت سهى وابنتها على سطح المياه. وبين وقت وآخر تشهد استسلام أحد أفراد المجموعة حولها للإرهاق وانزلاقه لأسفل وسط المياه المظلمة. ولم تأت المساعدة قبل طلوع النهار.
السابحون الذين جرفتهم الأمواج قرب الشاطئ كانوا أول من استرعى انتباه الصيادين الذين أبلغوا البحرية المصرية. لكن حتى وصول البحرية؛ لم يضع حدا للكارثة المحيقة باللاجئين: لقد تجمعت القوات البحرية لتحيط باللاجئين وتلتقط الفيديوهات للحظات غرقهم المستمرة في المياه بحسب شهادات العديد من الناجين.
لم يكن رجال القوات البحرية وحدهم غير المبالين بمعاناة اللاجئين، شهدت عدة نساء من الناجيات ممن احتجزن في قسم الشرطة لأحد الاطباء الزائرين، أنه عندما تم جذبهن لقوارب الإنقاذ، وبينما جثث الغارقين لاتزال طافية في المياه، قال لهن الصيادون في تحرش واضح "بناتكن جميلات هل يمكن أن نتزوجهن؟"
ليس من الصعب رؤية لماذا يصارع السوريون للخروج من مصر: فمنذ إزاحة العسكريون للرئيس محمد مرسي في الثالث من يوليو، صار السوريون هدفا لحملات الكراهية وهيستريا الزينوفوبيا (1). واحدة من الخطوات الأولى للحكومة الجديدة كانت تقنين حصول السوريين على تأشيرة دخول (2)، مما جعل عملية الدخول لمصر مستحيلة تقريبا للعديد منهم. والكثير من اللاجئين السوريين الموجودين داخل البلاد بالفعل اتهموا بالمشاركة في المظاهرات الإسلامية المسلحة، مما قاد للقبض عليهم والتعدي عليهم بدنيا وترحيلهم إلى خارج البلاد.
لكن الحرب القائمة في الوطن والاضطهاد خارجه لم تكونا المحنتين الوحيدتين اللتين يواجههما السوريين. فمن قابلناهم من الناجين من واقعة الغرق تلك، ولاجئين آخرين كانوا في قوارب أخرى اعترضتها السلطات المصرية أمام شاطئ الإسكندرية تحدثوا عن شخص يدعى إلياس أبو إبراهيم، يقولون أنه الرجل المسؤول عن عمليات التهريب لديه مكتب في الإسكندرية وأسطول من المراكب البحرية، بالإضافة لتجارة مزدهرة تعتمد على بيع وعد البداية الجديدة في أوروبا للاجئين السوريين.
لكن وعود أبو إبراهيم – يقول الناجون- محض وهم. عشرات اللاجئين الذين استعانوا برحلات أبو إبراهيم تعرضوا للسرقة على يد بلطجية يحملون أسلحة بيضاء بمجرد صعودهم إلى القوارب. كان فخا، كل شئ تم الاستيلاء عليه: خواتم الزواج والأموال والهواتف المحمولة وحتى الثياب. يقول رجل أعمال سوري يدعى سمير أن اللصوص سرقوا 10 ألاف و500 دولار من أسرته. هذه الاموال كانت ثمن بيت الأسرة المباع في جنوب درعا السورية، الذي اضطر سمير لمغادرته بعد أن هدده نظام بشار الأسد بقتل أطفاله، اللصوص المصريون استولوا على كل قرش.
السوريون المعتقلون في قسم شرطة كرموز يعتمدون على التبرعات في كل شئ تقريبا: الطعام والملابس، الأدوية وحفاضات الأطفال. "طاهر مختار" الذي يعمل طبيبا مقيما لطب الطوارئ يتطوع لعلاج اللاجئين المحتجزين في قسم الشرطة بلا مقابل، يقول طاهر إنه لا يوجد تركيبات علاجية كافية لرضيع محتجز في قسم الشرطة، ولد قبل أيام من رحلة القارب المميتة. ووفقا لمختار، فإن والدة الطفل غير قادرة على إرضاعه طبيعيا بسبب الضغط النفسي الشديد وقلة الطعام الجيد في الحبس.
علامات الحرب بادية على اللاجئين، يرفعون قمصانهم ويحسرون سروايلهم عن سيقانهم لتبدو ندوب الرصاص والأسلحة البيضاء. لكن وجوه الأطفال تحمل الكثير من التقيحات وجلطات الجروح— وهي ليست أثرا متخلفا عن الحرب الدائرة في وطنهم الأم، ولكنها ناتجة عن ظروف الاحتجاز في السجن القذر. "إنها ظروف غير إنسانية" يقولها بينما يهز رأسه "الجرب ينتشر بينهم الآن".
في الممر الموصل بين مدخل الحبس والغرفة التي يحتجز فيها اللاجئون السوريون، الذين يجري تفريقهم عن النساء في الليل، تتداخل الأحزمة الملقاة على الأرض، تستخدم هذه الأحزمة عينها في جلد المحتجزين. علامات رسمتها أيد دامية على الحوائط القريبة من الباب ذو القضبان الحديدية، الذي يقبع خلفه شباب مصريون. "كيف يتعلمون لو لم يكن بهذه الطريقة؟" يتساءل مسؤول قسم كرموز بلا مواراة.
يقول اللاجئون المحتجزين في قسم كرموز أنهم لم يتعرضوا للتعذيب، لكن صرخات المحتجزين المصريين تعيد إليهم ذكريات الكوابيس التي خلفوها وراءهم في سوريا. يقول مختار (الطبيب المقيم) أن علامات الكرب والمرض العقليين صارت واضحة على اللاجئين المحتجزين.
كل اللاجئين الذين جرى احتجازهم عقب محاولتهم لعبور البحر على متون القوارب، سيتم غالبا ترحيلهم من مصر بناء على طلب أمن الدولة، وفقا لما يقوله نائب رئيس السجن تامر النشار. الذي بيّن أن معظمهم سيتم إكراههم على العودة لسوريا. والمحتجزين السوريين ممن ليست لهم اصول فلسطينية سيتم تخييرهم بين الترحيل إلى تركيا أو لبنان أو العودة لسوريا، ورغم تلك الاجراءات يقول النشار إن البعض تمكن من الفرار إلى أماكن أخرى بينها تونس وذلك عبر استخدام الصلات (الوساطات) أو الرشاوى.
كثير من اللاجئين السوريين ضبطوا بوصلتهم على السويد كوجهة نهائية لهم، باعتبارها البلد الوحيد في الاتحاد الأوروبي الذي قرر نهائيا أن يستوعب كافة اللاجئين السوريين الواصلين إليه. لكن العديدين أيضا أساؤوا فهم سياسة الدولة، وظنوا أن السفارة السويدية في القاهرة ستمنحهم تأشيرات الدخول أو حق اللجوء، أو ظنوا أنهم لو تمكنوا بطريقة ما من الوصول لجنوب أوروبا، فسوف يسمح لهم بالسفر دون موانع إلى السويد.
تقول مروة هاشم المسؤولة بمفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة بالقاهرة: "إنهم يفتحون الباب الخلفي بقبول الناس عند وصولهم للسويد". " ولكن إذا ما ذهبوا للسفارة، لن يُمْنَحوا التأشيرات".
وفقا للقنصلية السويدية في الاسكندرية فإن عشرات السوريين يطلبون العون من القنصلية يوميا، ولكن يجري صرفهم بلا مساعدة، "إنها قضية تختص بها الأمم المتحدة" تعلق أمنية النجار مساعدة القنصل العام بهذه العبارة في تصريحاتها للفورين بوليسي. رغم كل المخاطر -- وامتلاء المشارح بأجساد الرجال والنساء والأطفال الغارقين – لكن اعدادا متزايدة من اللاجئين اليائسين لازالوا يقررون المغامرة بحيواتهم في تلك الرحلة غلى أوروبا. في الخامس عشر من أكتوبر، انقذت البحرية الإيطالية حوالي 370 مهاجر من سوريا واريتريا والصومال تاهوا في البحر بين ليبيا وصقلية.
بينما تقول سهى أن قدميها لن تطئا القوارب مرة اخرى، تصر على أن معركتها للوصول للسويد لم تنته.
اللاجئون في قسم شرطة كرموز يبحثون عن شئ واحد – الأمل. الذي يوجد في أبسط الاشياء: أب يداعب ابنه الرضيع "حبيب" يقذفه لأعلى ويتلقاه، وجه الطفل الممتلئ بلدغات البعوض يشرق بينما ترتفع قهقهاته، قبل أيام قليلة كان الاب يرفع رضيعه عن المياه في محاولة مستميتة لإنقاذ حياته.
"نحن ندعوه الطفل المعجزة" يقول الأب. وبينما تحتشد المجموعة حول الرضيع الصغير، تتألق عينا حبيب ذواتا اللون الأخضر الصريح.
1- الزينوفوبيا هي الخوف المرضي من الأجانب والشعور نحوهم بالتهديد.
2- منذ اتفاقية الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق في إبرايل 1963 صار للسوريين كما المصريين حق دخوا مصر والإقامة والعمل فيها دون طلب الحصول على تصريح أو تأشيرة دخول. وترتب على الاتفاقية الحقوق نفسها للمصريين داخل سوريا.