بعد شرح طويل عن الأوضاع المعيشية في أحياء شرقي مدينة القدس المحتلة يسود صمت متفاجىء ربما، يتنحنح أحدهم استعدادا لطرح سؤال يبدو أنه "مختلف". إذن لماذا لا يصوّتون في انتخابات البلدية؟ هكذا يسأل بعض الإسرائيليين ممن يشاركون في جولات أو دورات تنظمها جمعيات إسرائيلية تميل إلى جهة ما يُسمى "اليسار الإسرائيلي" وتتركز مادّتها حول الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وأحيانا السياسية التي يعيشها الفلسطينيون في القدس المحتلة.
عدا عن كونه مشهداً مصبوغاً بـ "سذاجة استعمارية" فإنه يبدو كذلك "إستشراقياً"، الإسرائيلي الذي ترتسم أمامه صورة العربي مرتبطة بالمطعم الشهير "حمص لينا" بالقرب من عتبات المسجد الأقصى والذي يأمه اليهود بخاصة أيام السبت، وربما يرتسم العربي في مخيلته بذلك الطفل الذي يبيعه الكعك بالسمسم عند باب العامود، يتعرف – أي الإسرائيلي - فجأة على أحياء فلسطينية مقدسية مكتظة، تعاني من بنية تحتية هشّة، نفايات مهملة، تضييق على التخطيط والبناء، أوضاع تعليمية صعبة، وغيرها من سمات الوجود الفلسطيني المتداعي في القدس، فينظر متأملاً بعين "الفهيم الواعي المتنور" الذي أدرك منذ زمن "السبيل الديموقراطي لتحصيل الحقوق"، ويريد أن يُعلّم ذلك العربيّ المضطهد المغلوب على أمره ويدله على الخير.. فيسأل "معاتباً" وبنبرة حزن مصطنعة: "قلي بربك لماذا لا تصوّت في انتخابات البلدية؟" وكأن الحلّ السحري يكمن في أن "يستغل الفلسطيني حقه في التصويت في انتخابات البلدية لإحداث تغيير لصالحه وتحسين أوضاعه المعيشية"، كما يعبر عن ذلك هؤلاء الإسرائيليون وغيرهم ممن يؤيد مشاركة فلسطيني القدس في الانتخابات المحلية الإسرائيلية.
وبعيداً عن المحاولات البائسة لما يسمى "اليسار الإسرائيلي" استمالة قلوب الفلسطينيين للمشاركة في هذه الانتخابات بالتصويت له، وبينما تسير الأمور بشكل شبه طبيعي في القرى والبلدات الفلسطينية في الداخل المحتل، يستعيد البيت الفلسطيني الداخلي في القدس كل خمس سنوات نفس النقاش حول جدوى المشاركة.
انتخابات بلدية الاحتلال في القدس: ما بين الدعوة للمقاطعة والدعوة لإيجاد البديل
يرفض الموقف الرسمي والشعبي الفلسطيني أية مشاركة تذكر في هذه الانتخابات، على اعتبار أن التصويت فيها يضفي الشرعية على أحد أذرع الاحتلال الشرسة في محاربة الوجود العربي في المدينة، فهي ذات البلدية المتهمة بتعطيل حركة البناء وهدم بيوت الفلسطينيين، وجني الضرائب الباهضة منهم، والتضييق على مختلف جوانب حياتهم. وقد سبق أن أصدر الشيخ عكرمة صبري "فتوى شرعية" تُحرّم المشاركة في هذه الانتخابات بشكل قاطع.
كما أن منظمة التحرير الفلسطينية وجهات فلسطينية عدة قد دعت هذا العام وفي أعوام سابقة إلى مقاطعة هذه الانتخابات ومنها الائتلاف الاهلي للمؤسسات المقدسية الذي قال في بيان له يوم الأحد الماضي: "إن شعبنا الفلسطيني يرفض مقايضة حقوقه السياسية وفي مقدمتها انهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس بأية خدمات بلدية او غيرها او مشاركته في مؤسسات الاحتلال التي تهدف الي طرده وترحيله عن مدينته المقدسة".
مهدي عبد الهادي، رئيس الجمعية الفلسطينية الأكاديمية للشؤون الدولية – باسيا – قال في حديث مع "شبكة قدس" إنه يرى في المشاركة في الانتخابات المحلية في القدس كسراً للموقف الفلسطيني الثابت الذي يرى فيها أرضاً محتلة، ويرفض أن يعتبرها جزءاً من "إسرائيل". ويضيف عبد الهادي: "المشاركة في هذه الانتخابات تعتبر كسراً للقانون الدوليّ الذي يعتبر القدس الشرقية تحت الاحتلال، كما أننا بهكذا مشاركة نكون قد نفذنا الأسرلة بأيدينا، واستنتسخنا المطبات والمشاكل التي وجد فلسطينيو الداخل أنفسهم فيها".
يعود عبد الهادي في حديثه إلى جذور هذه القضية، ويشير إلى الغياب الواضح للنخبة القيادية الوطنية في مدينة القدس، فالمدينة اليوم- كما يقول – أصبحت تضمّ عدة "دكاكين"، كلّ جهة تأتلف وتشكل جسماً منفصلاً، تنشط بمعزل عن البقية، وأصبح في كل ركن "جماعة" ما تتصدر المشهد المقدسي وتتحدث باسمه، يتزامن ذلك مع غياب حقيقي وصارخ لمفهوم التمثيل، وبطبيعة الحال غياب الشخصية القيادية أو مجموعة من الشخصيات القيادية التي يمكن أن تنال إجماع المقدسيين وثقتهم.
يلفت عبد الهادي هنا النظر إلى أن هذا الوضع السيء جداً من ناحية ترتيب الأمور الفلسطينية والفشل في خلق مرجعية سياسية وطنية نظيفة في المدينة يجب أن لا يجبرنا إلى المشاركة في انتخابات بالبلدية كحلّ أخير لا مناص منه. يقول إن "أي اختراق للبيت الفلسطيني اليوم هو تنازل، وأي قبول فلسطيني بهذه الانتخابات وفق مبدأ التعامل مع الواقعية السياسية لتحقيق مصالح آنية للفلسطينيين هو تنازل. أعطونا بيتاً فلسطينياً مرتباً غير منقسم، وحضوراً مقدسياً وطنياً غير مخترق، وحينها يمكننا النضال والنضال بقوة أمام سلطات الاحتلال في القدس".
"حسناً نقاطع، ولكن ماذا بعد؟!"
على الجهة المقابلة، هناك عدد قليل من الفلسطينيين الذي ينتقدون مبدأ مقاطعة انتخابات البلدية، ولا يقتنعون بـ "إضفاء الشرعية والاعتراف" كحجة لهذه المقاطعة، وغالبهم يخافون من التصريح بمواقفهم حتى لا يوصفوا بـ"العمالة" أو التطبيع، كما عبّر أحدهم لشبكة قدس.
لكن إلياس خوري، محامي فلسطيني من الناصرة، يعيش في مدينة القدس ما يزيد عن أربعين عاماً ويرافع أمام المحاكم الإسرائيلية في الكثير من القضايا الوطنية، لم يوفر جهداً في شرح موقفه من هذه القضية. يبدأ خوري حديثه بالتساءل "عن أي إضفاء شرعية نتحدث ونحن في القدس نتهافت للانضمام إلى صناديق المرضى الإسرائيلية، وتتقاضى مدارسنا تمويلاً من البلدية، ونتقاضى مخصصات من مؤسسة التأمين الوطني الإسرائيلية، وندفع ضرائب "الأرنونا" للبلدية، لا بل وينضم البعض منا إلى نقابات العمال الإسرائيلية؟"، ويضيف خوري: "بل عن أي شرعية تتحدث قيادات في السلطة يقفون ضد المشاركة في هذه الانتخابات، وهم أبناء "أوسلو" التي اعترفت بإسرائيل، وهم الذين يناضلون من أجل الحصول على بطاقة الـ VIP"؟.
ويضيف إلياس: "أنا لست ضدّ سياسة المقاطعة إذا كانت هذه المقاطعة مندرجة ضمن خطّة عمل واستراتيجة فلسطينية وطنية واضحة تشكل في المقابل بديلاً قوياً للواقع الحالي وتستطيع التصدي للممارسات الإسرائيلية. أما أن نقاطع الانتخابات ونسكت بقية الأيام، ولا نتحرك لتشكيل تنظيم بديل يعمل وفق خطة ويجمع عناصر متكاملة يخرج بنتائج ملموسة، فهذا ليس منطقياً".
وعن شكل هذه المشاركة في انتخابات بلدية الاحتلال فيقول خوري إنه يرفض وبشكل قاطع التصويت أو الترشح مع أحزاب إسرائيلية أياً كانت. في المقابل، يدعو إلى تشكيل قائمة عربية مخلصة وواحدة يكون همّها الوحيد العمل من أجل القدس بعيداً عن المصالح الضيقة، وتكون نواة للمستقبل لتشكيل بلدية عربية.
وبلغة الأرقام يتحدث خوري عن أن اليهود المتدينين "الحريديم" يشكلون ما نسبته 25% فقط من مجموع سكان المدينة المحتلة، بينما نجحوا في الانتخابات الماضية بإنجاح المرشح الذي يؤيدون – نير بركات في هذه الحالة، ويريد خوري بهذا المثال القول بأن المقدسيين يستطيعون التأثير في نتائج هذه الانتخابات لصالحهم إذا توحدوا خلف مرشح عربي وطني، خاصة أن أصوات اليهود هذا العام متفرقة، وخاصة أصوات اليهود المتدينين، على حدّ تقديره.
وفي تصريح للموقع الإلكتروني لجريدة القدس قال زياد الحموري من مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، أن إحدى البدائل لهذه الانتخابات يكمن في "تشكيل لجان شعبية تقوم ببعض مهام البلدية، حيث أن "إسرائيل" لا تستطيع منع نشاط مثل هذه اللجان، التي لا تقف وراءها جهات رسمية أو حزبية".
ماذا عن الشارع المقدسي؟
تقاطع الغالبية العظمى من المقدسيين هذه الانتخابات ولا تلقي لها بالاً. والمتجول في شوارع القدس يستطيع أن يلمس السخرية في ردود أفعال المقدسيين على الدعايات التي تغرق شوارعهم في الأسبوع الأخير قبل الانتخابات، إذ يتذكرهم بعض المرشحين الإسرائيليين على حين غرة ويسارعون إلى طباعة مناشير باللغة العربية لاستمالتهم.
ومن الداعي للسخرية أن أحد المرشحين اتخذ من جملة "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" من شعر محمود درويش شعاراً لحملته باللغة العربية، وفي مشهد ذي رمزية عالية ألصقت دعايات لهذا المرشح على طول الجدار العازل في الطريق ما بين القدس ورام الله، تلك الطريق التي ترتبط في عقول المقدسيين بـ"نكد" حاجز قلنديا.
[caption id="attachment_31141" align="aligncenter" width="310"] إعلان "حاييم افنشتاين" في أحد الأحياء الفلسطينية في القدس مع شعار: على هذه الأرض ما يستحق الحياة[/caption]وتشير بعض التقديرات الإسرائيلية إلى أن نسبة الفلسطينيين الذين يصوتون في هذه الانتخابات لا تتعدى الـ 3% من مجمل من يحق لهم التصويت من الفلسطينيين، وهو ما يتراوح بين 4000- 5000 شخص. وأغلبهم - حسبما تقول مصادر فلسطينية - من العاملين في البلدية نفسها أو من أهالي قرية بيت صفافا التي احتل جزء منها عام 1948 ويحمل بعض سكانها الجنسية الإسرائيلية، أو من فلسطيني الداخل المحتل الذين انتقلوا منذ سنوات طويلة جداً للعيش والعمل في مدينة القدس من محامين ومحاسبين وغيرهم.
عن انتخابات البلدية هذا العام
يتم التصويت لانتخابات البلدية في ورقتين منفصلتين، الأولى يتم فيها اختيار مرشح رئاسة البلدية، والثانية يتم فيها اختيار قائمة للمجلس البلدي. وتتنافس هذا العام على مقاعد المجلس البلدي في مدينة القدس ما يقارب 6 قوائم إسرائيلية، وقد حاول بعض الإسرائيليين تشكيل قائمة إسرائيلية عربية موحدة بطابع اجتماعي - اقتصادي إلا أنها لم تحظى بتجاوب من الفلسطينيين في المدينة.
[caption id="attachment_31143" align="aligncenter" width="263"] من إحدى الصحف الإسرائيلية بعنوان: من ضمن 286 مرشحاً للمجلس البلدي عربي واحد فقط، ويظهر في الصورة المرشح ضمن قائمة ميرتس فؤاد سليمان[/caption]يذكر أن قائمة حزب "ميرتس" اليساريّ تضم الفلسطيني فؤاد سليمان وهو طبيب يعمل في مستشفى هداسا عين كارم، ونشيط في حزب ميرتس منذ عام 1989.
[caption id="attachment_31138" align="aligncenter" width="349"] المرشح العلماني "نير بركات" أثناء جولة له في الموقع الاستيطاني "مدينة داوود" في سلوان[/caption]أما على رئاسة بلدية الاحتلال في القدس هذا العام يتنافس كلّ من رئيس البلدية الحالي "نير بركات" العلماني والذي أتى من قطاع التجارة وتكنولوجيا المعلومات، والمحاسب "موشيه ليئون" الذي يحظى بدعم عضو الكنيست عن "إسرائيل بيتنا" افيجادور ليبرمان، ورئيس قائمة "شاس" في الكنيست "آريه درعي". كان "ليئون" يسكن في مستوطنة جفعاتيم بالقرب من تل أبيب، وقام مؤخراً بنقل مكان سكنه إلى القدس ليستطيع الترشح لهذه الانتخابات، ويحاول الاثنان جاهدين التنافس على أصوات اليهود المتدينيين في المدينة.
[caption id="attachment_31139" align="aligncenter" width="436"] المرشح "موشيه ليئون" يجلس بالقرب من ليبرمان في مباراة لفريق "بيتار يروشليم"[/caption]إضافة إليهم ترشح الحاخام "حاييم افنشتاين" عن حزب "أبناء التوارة". وقد سبق أن أعلن فلسطيني من قرية صور باهر باسم زهري حمدان، عن نيته الترشح لرئاسة البلدية، مدعياً أن هذا الترشح جاء بعد أن توجه إليه عدد كبير من أهالي القرية والمقربين له يشجعونه على الترشح قائلاً: "يكفي أن نكون سكاناً من الفئة ب، نحن كدافعي ضرائب لا نحظى بما نستحق"، وذلك حسب تصريح لموقع "يديعوت احرونوت".
القدس إلى أين؟
بعيداً عن براغماتية المؤيدين للمشاركة بقائمة عربية في هذه الانتخابات ومقاطعة الرافضين لها، لا شك أن مدينة القدس تمرّ بأزمة قيادة حقيقية، ويتصدر مشهدها في كثير من الأحيان من ليس أهلاً للتحدث باسمها والعمل من أجلها، في غياب واضح للمؤسسات الفلسطينية الفاعلة، واستمرار التضييقات الإسرائيلية على أي مشروع لقيادة فلسطينية وطنية جديدة. لكن الحل لا يمكن إلا أن يكون فلسطينياً صاحب نفس طويل واستعداد واضح للتضحية، وبأدوات فلسطينية وطنية، بعيداً عن محاولات الدفع إلى "قباب" إسرائيلية جاهزة يراد للفلسطيني - ولو مضطراً - العمل تحتها وضمن قوانين لعبتها.
*الصورة أعلاه: للمصور عمار عوض - رويترز