هاني عوّاد*
بعد عامين من اندلاع ثورة البوعزيزي نستطيع القول أنَّ العرب قد أخذوا جرعة من السياسة تضاهي ما تجرعوه على مدارِ عقود. العالم العربي يتحرّك بوتيرة متسارعة حدّ أن نشراتِ الأخبار لا تمهل المحلل للتوقّف قليلًا والتأمّل ليقدّم تفسيرًا لما جرى. إنّها مهمة صعبة تنتظر الباحثين لقراءة مسارات ثورات الربيع العربي وإعادة تقييم المجال السياسي، وهي في نفس الوقت فرصة ثمينة للأيديولوجيات العربيّة التي بقيت مدفونة في شعارات الأحزاب لكي تنطلق من جديد وتبحث عن قواعدها الاجتماعيّة.
ومع ذلك فقد ظهرت خلال العامين الماضيين محاولات تفسيريّة لما جرى في دول الربيع العربي، منها من ظلّ أسيرًا للمدرسة التقليديّة في السياسة التي ترى أنّ كل شيء يمكن أن يُفسّر من خلال التوازنات الدوليّة ووفق هذا القياس يُعاد فتح دفاتر الحرب الباردة بين روسيا وأمريكا وبين إيران والسعوديّة لتحليل مسار الثورة السوريّة. ومن المحاولات من عادت إلى الدفاتر الحزبيّة القديمة لتستعيد صراعًا قديمًا بين الإسلاميين والعلمانيين ومردّ ذلك بالطبع كلّ المؤشرات التي تتنبأ بصعود الحركات الإسلاميّة إلى سدّة الحكم.
من ناحية المبدأ نحن لسنا ضدّ مثل هذه التفسيرات التي قد تكون في أحيانٍ عديدة مفيدة للتحليل، ولكننا نعتقد أنّ هذه التفسيرات لا بدّ أيضًا أن تُقرَّ بمحدوديتها، ثم أن تأخذ الحراك الشعبي -بوصفهِ حركة جوّانيّة- مأخذ الجدّ، لذلك فإننا ننحاز إلى المدرسة الثالثة التي تعطي الدور الأكبر للتفاعلات الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة داخل المجتمع الواحد دون أن تهمل في نفس الوقت المؤثرات الدوليّة أو الصراعات الأيديولوجيّة التي تلعب دورًا يشبه دور العقاقير الكيميائيّة المُنشّطة أو المثبّطة لسرعة التفاعل. وهكذا فإنَّنا نعتقد بأنّ الشعوب العربيّة عندما قامت قبل عامين، إنّما قامت لإعادة تسوية أوضاعها مع دولها بعد أن تعرضت مهام الدولة العربيّة إلى السرقة أو التعطيل بشكلٍ لم يعد بالإمكان أن يُطاق أو يُحتمل. نحن نميل في هذه المقالة إلى معالجة الثورات من خلال المقاربة "الدولتية" إن صحّ تحويرنا لمفهوم المفكّر الفرنسيّ هنري لوفيفر.
إنّ علاقة العربيّ بدولته هي علاقة خصوصيّة. فالطبقة الوُسطى العربيّة قبل هذه الدولة لم تكن موجودة، ومثلها مثل غيرها من دول المُحيط، قامت الدولة العربيّة بإنتاج طبقتها الوسطى منذ بداية عهود التأميم وتعميم التعليم المجانيّ وإنشاء اقتصاد السوق فتوسّعت الطبقة الوسطى بتوسّع بيروقراطيّة الدولة، وذلك على خلاف الدول السابقة للانتقال إلى نمط الإنتاج الرأسماليّ، حيث أنتج تطوّر السوق طبقةً وسطى هي البرجوازية، وهو الأمر الذي أدى لاحقًا إلى قطاعات واسعة نمت بنموّ الدولة أن ترتبط عضويًا بالنظام الحاكم وأن تجد في مصير النظام مصيرها. لقد كانت هذه هي السمة العامة للدولة العربيّة المعاصرة مع تفاوتاتٍ ميّزت بين دولةٍ وأخرى. ففي سوريا بقيت العلاقة بين بيروقراطيّة الدولة والنظام بدائيّة ومبسّطة ويستطيع أي متابع لمسلسلات الدراما الاجتماعية السوريّة قبل الثورة بعدةِ أعوام أن يلحظ كيف يقضي المواطن السوري ثلث عمره لينال حصته في وظيفة تتكرّم عليه بها الدولة، ثم كيف يمضي ما تبقى من عمره لينال ترقيّة تمكنه من مواجهة تكاليف الحياة.
إنّ الطبقة الوسطى التي خرجت من صلب بيروقراطيّة الدولة وسياساتها الاجتماعيّة لم يُتح لها أن تستقل عن النظام لأسباب متعددة، منها فشل السياسات التنمويّة الاقتصادية مما جعل السمة الغالبة للحراك الاجتماعي فيها مرتبطٌ بالعلاقة مع بيروقراطيّة الدولة، حتى أنّ السمسرة في سوريا بوصفها تجليًا من تجليات الاقتصاد الخدمي كانت في الحقيقة سمسرة بين بيروقراطية النظام وفئات في الغالب من خارج سوريا كما يقول الباحث الاقتصاديّ السوريّ منير الحمش.
ومع دخول سوريا مرحلة النيولبرالية المفاجئة التي أفقرت الريف والهوامش المدينية دون أن توسّع الطبقة الوسطى ودون أم تنوّع مصادرها الاقتصاديّة، حتى أنَّه ومع بدءِ الثورة السوريّة بدا وكأنَّ تلك الهوامش تطالب النظام بالعدالة في توزيع الدولة بعد أن وجدت نفسها عاريةً أمام بشاعة التوزيع الاقتصادي التي أنتجته سياسات الدولة الجديدة، وتمسّكت بالمقابل القطاعات الاجتماعيّة التي أحرزت امتيازات معقولة في الدولة بالنظام-الدولة بوصفهِ شبكة حمايةٍ لها ولمصالحها، قبل أن ينجرف الصراع لاحقًا ليأخذ شكلًا شموليًا استعادت فيه كلّ القوى الاجتماعيّة ما يمكن أن يساعدها في المواجهة ومن ذلك المسألة الطائفيّة. وبالطبع كان النظام واعٍ منذ فترة مبكرة لهذا المسار؛ فهو منذ اليوم الأول سعى إلى تحويل بيروقراطيّة الدولة إلى جيش يعمل لصالحه في حين لم تتوفر معلومات أكيدة عن نجاح أو فشل هذا المسعى.
أما في مصر فإنّ موضوع الدولة يأخذ شكلًا أكثر تعقيدًا. فتقاليد الدولة المصريّة الحديثة راسخةً منذ أيام محمد علي، وقد وصلت في أوجها في عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وبسبب سياسات الانفتاح التي قادها الرئيس الأسبق أنور السادات كفّت بأن تكون إنجازًا، وأصبحت بالعكس من ذلك منتجةً للفقر، فقد أُشبع القطاع العام المصريّ حد التخمة، بحيث أصبحت مؤسسات الدولة وبيروقراطيتها فضاءً ضيقًا للتوزيع، وحلّ بموازاتها قطاعات اقتصاديّة أخرى منتجة للثروة أهمها اقتصاد الخدمات واقتصاد الظلّ، وبدا عند اندلاع الثورة المصريّة أن "رأسماليّة الأنابيب" بتعبير عالم الاقتصاد المصري محمود عبد الفضيل، محيّدة في الصراع الاجتماعي والاقتصادي.
إنّ خصوصيّة الإخوان المسلمين المصريين القادمين من الريف أنّهم أثرياء، أي أنّهم قادرين على المنافسة في الاقتصاديات الموازية بعد أن حُرموا لأسبابٍ سياسيّة في عهد النظام البائد وهو ما يهدد مصالح من سبقوهم إليها. فالرأسماليّة المصريّة المعارضة للإسلاميين - إن صحَّ التعبير- لم تحارب من أجل توزيع بيروقراطيّة الدولة، بل دافعت عن امتيازاتها في الاقتصاد الخدمي الذي بدا وكأنّ الإسلاميين يزحفون نحوه بما يملكونه من ثروات نتجت عن تجارة التجزئة وشركات النقد التجاريّة وأغلبها أموال كان مصدرها ما تدفّق من عائدات عمالة النفط في الخليج.
لقد كان من أبرز نتائج ثورة 25 يناير أن كسرت ولأول مرة منذ عقود الجدار السياسي بين الفاعلين في الاقتصاد الرسمي والفاعلين في اقتصاد الظلّ. لذلك كان لا بدّ من أن تقلق شريحة رجال الأعمال المستفيدة من فساديات الاقتصاد الرسمي من تسلل فاعلين جدد من اقتصاد الهامش لتنافسهم على حصتهم من الكعكة، أو لتبديد مكتسباتهم عبر إعادة تدوير النظام الاقتصادي الجديد بالديمقراطية، ففضّلت تلك القوى المواجهة الاستباقية متقاطعةً بذلك مع قوى المعارضة.
إنَّ مشكلة الجماعة الاقتصادية للنظام القديم هي أن الرئيس محمد مرسي وجماعة الإخوان عندما قدموا إلى كراسي الحكم، فإنهم لم يأتوا كرجال سياسةٍ فحسب، بل جلبوا معهم أيضًا جماعتهم الاقتصادية، وهو الأمر الذي عقّد التسوية المرتقبة، فرجل الأعمال قد يتفق مع رجل السياسة لوحده، لكنّه لا يمكنه أن يتفق مع رجلين: رجل سياسة ورجل أعمال!
هذا يعني أنّ الصراع على الدولة في الحالة المصريّة لا يجب أن يُفهم بأنّه صراع على الدولة بوصفها غنيمة، ولكن بوصفها أداة يمكن أن تسمح للريف بأن يجتاح مصالح الطبقة المدينيّة. وهنا تأخذ المطالبة شكل "حكومة ائتلاف" أو "مجلسٍ رئاسيّ"...ألخ، وهو ما يعني منع اتخاذ قرارات تهدد امتيازات الحصص الكبيرة في الاقتصادات الموازية.
تأخذ تونس حالة وسطيّة بين سوريا ومصر. فالدولة لم تقم بخلق الطبقة الوسطى التونسيّة فحسب، وإنّما أيضًا ما بات يعرف اليوم بمؤسسات المجتمع المدني، وأهمّها النقابات المندرجة في الاتحاد التونسي للشغل. فالدولة بأجهزتها ومؤسساتها ونقاباتها هي الفضاء العام لتوزيع الرمزيات والماديّات، وليس من الصعب أن نشير بأنّ بيروقراطيّة الدولة هي المغذّي الأساسيّ لأنصار النظام السابق، بينما تتموقع قوى اليسار الراديكاليّة والمعتدلة في النقابات وخصوصًا الاتحاد التونسي للشغل وقد حُرم الريف التونسي على العموم من هذه المواقع لأسباب يمكن تعدادها، ففي نظر المعارضة التونسيّة بشقيها فإنّ الإسلاميين وحزب المرزوقي قادمين من الهوامش لاحتلال مواقعهم التقليديّة، وبالطبع ليس من الصعب أن تُغّلف هذه المشاعر بقوالب اتهاميّة، بوعيٍ أو بغير وعي، بما يُطلق عليه بأسلمة الدولة والمجتمع. وأن تكون أقصى تجلياتها هي حكومة التكنوقراط التي يُقصد فيها وقفِ تغلغل الإسلاميين وحلفائهم في مؤسسات الدولة، فوظيفة التكنوقراطي هنا أن يسيّر أمر الدولة لا أن يعيد هيكلتها.
وما يُعقّد الأمور في تونس، أنّ الدولة على خلاف الحالة المصريّة لم تقم بطوير أي نوعٍ من الاقتصاد الموازي ليوازن رأسماليّة الأنابيب وليقوم بتحييدها اجتماعيًا، وبالعكس من حالة مصر أيضًا؛ فالإسلاميون لم يكن لهم ثرواتهم يجلبونها معهم إلى للمنافسة في اقتصادٍ منفصلٍ عن الدولة. بل أتى أؤلئك بأيادٍ فارغة جارّين معهم ما يمثلون من فئات اجتماعيّة ريفيّة واسعة. لقد أرعبت فكرة زحف الريف التونسي إلى المدينة التونسيّة رأسماليّة الأنابيب والذين يمثلهم على سبيل المفارقة تحالفات يسارية (تسيطر على النقابات) وتحالفات حداثويّة (على ضفاف البيروقراطيّة التونسيّة ويمثلهم حزب نداء تونس بقيادة الباجي قايد السبسي) انتجت خطابا روّع شرائح واسعة من الطبقة الوسطى فأنتجت حراكًا مضادًا.
*باحث في المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات