عشرون عاماً مضت على توقيع اتفاقية أوسلو ولا زال هنالك حلم ليلة صيف يراود مهندسي الإتفاقية بأن تتمكن من الانتصار على المخيمات والمقاومة. عشرون عاماً مضت في تنفيذ بنود الإتفاقية، والمخيمات لا زالت تقاوم فكرة التحول إلى مناطق خضراء غير قادرة على احتضان المقاومة. تلك المخيمات التي خرج منها ناجي العلي قائلاً: “كلما ذكروا لي الخطوط الحمراء طار صوابي، أنا أعرف خطاً أحمر واحداً، أنه ليس من حق أكبر رأس أن يوقع وثيقة اعتراف واستسلام لإسرائيل”، تلك المخيمات لن تُهزَم ولن تخضع لأوسلو واعتباراتها الأمنية.
تحول المقاومة إلى "إرهاب" والعدو الإسرائيلي إلى "طرف آخر"
بدأت بعض التعبيرات والمصطلحات والمفاهيم تأخذ منحى أخر بعد البدء بتطبيق اتفاقية أوسلو. على سبيل المثال، يلاحظ في خطاب الساسة والمسؤولين الفلسطينيين سواء للإعلام المحلي أو العالمي أن لفظ العدو قد اختفى من خطابهم، وأصبحوا يصفون العدو الإسرائيلي بالطرف الآخر. كذلك تم استبدال فكرة حق العودة بفكرة "حل عادل لقضية اللاجئين"، ولم يعد هناك أي حديث جديّ أو رسميّ عن حق العودة. قد يكون الحديث عن حق العودة لا زال موجوداً في بعض الخطابات والتصريحات الإعلامية، لكنه لم يعد موجوداً على أجندة المفاوضات.
تكمن حجة البعض في استبدال فكرة حق العودة بفكرة حل عادل لقضية اللاجئين بأن "اسرائيل" لا ترد حق العودة، ولا يمكن أن تسمح بتطبيقه، وما دامت تصر هي على ذلك فإن السلام يصبح مستحيلاً مع المطالبة بحق العودة. من أجل السلام لا بد للفلسطينيين أن يكونوا عقلانيين من أجل استمرار عملية السلام، وهذا يعكس جوهر المشكلة في الفكر السياسي الفلسطيني وهو أنه بدلاً من الإصرار على الحق من أجل السلام، أصبح التنازل عن الحق مؤشراً للرغبة في السلام مع العدو.
ربما انتصرت أوسلو علينا وعلى مفاهيمنا اليومية والأكاديمية فيما يتعلق بحق العودة والمقاومة، لكنها حتما لن تتمكن من الإستمرار طويلاً في سياسة الترويج للعدو الإسرائيلي على أنه الطرف الأخر المحب للسلام.
فطرة المقاومة حين تنتصر على أوسلو
وبالعودة إلى المخيمات وارتباطها بالمقاومة ووقوع بعضها تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة وبعد تحت السيطرة الفلسطينية- الإسرائيلية المشتركة يلاحظ أنه يضاف إلى المفاهيم التي تم تحريفها وإخراجها من محيطها الطبيعي والمنطقي مفهومُ المقاومة الفلسطينية المسلحة، إذ تحوّل الكثير من الأكاديميين ومن يطلق عليهم المثقفين الفلسطينيين إلى صف السلطة الفلسطينية والتي لا تجد حرجاً في وصف المقاومة في مواضع كثيرة بـ "الإرهاب"، ويقومون بالتنديد بأي نشاط له علاقة بالمقاومة المسلحة، حيث أن هذا التنديد مرتبط ارتباطاً وثيقاً في محاولة أوسلو الانتصار على المقاومة والمجتمعات الحاضنة لها أي المخيمات الفلسطينية.
تلك المخيمات التي قاومت فكرة التحول إلى منطقة خضراء غير قادرة على احتضان المقاومة، وعليه نجد أن الإحتلال ومن خلال التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية يقوم بالتصفية الجسدية المباشرة للمقاومين لأنه يرى بأن سياسات كسب العقول والقلوب لم تجدي نفعاً في المخيمات، وبالتالي لجأ إلى التصفية الجسدية المباشرة للمقاومين، وهو ما حصل خلال الأسابيع الماضية التي تم فيها اغتيال أربعة مقاومين ثلاثة منهم استشهدوا خلال اقتحام مخيم قلنديا، والرابع أثناء اشتباكات الأهالي في مخيم عسكر مع قوات الأمن الفلسطينية.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه وبعد توقيع اتفاقية أوسلو تكاثرت الأجهزة الأمنية الفلسطينية، حيث ينص الإتفاق مع "إسرائيل" على قيام جهاز شرطة فلسطيني قوي يكون قادراً على ضبط الأمن. لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحدّ بل ظهر جهاز المخابرات والاستخبارات والأمن الرئاسي والأمن الوقائي وأمن المؤسسات والبحرية، والأمن الوطني. تعددت أجهزة الأمن ﺩﻭﻥ ﺃﻥ يكون هناك اعتراض من قبل ﺃمريكا و "اسرائيل" مما يدل على وجود اتفاقيات تتعلق بهذا الموضوع. يضاف إلى ذلك فكرة الدوريات المشتركة بين الفلسطينيين و الإسرائيليين ضمن حدود مناطق السلطة الفلسطينية مثل شارع بئر السبع في الخليل، وشارع السهل في طولكرم، وشارع فيصل في نابلس.
الأجهزة الأمنية حينما تغتال فكرة الثورة
أوسلو انتصرت على جزء من فكرة الثورة حينما بدأت الأجهزة الأمنية الفلسطينية باستقطاب عشرات الشباب الذين كان بعضهم في البداية متحمساً ظناً منه أنه سيقوم بأداء واجب وطني يتعلق بتحرير فلسطين وإقامة الدولة الفلسطينية، انضم عشرات الآلاف من الشباب للأجهزة الأمنية وبرواتب متدنية. يتضح من سياسة التوظيف التي استوعبت عشرات الآلاف من الشباب الفلسطيني أن الهدف الأساسي منها يكمن في إخلاء الشوارع من العاطلين عن العمل، حتى لا يتسبب الجوع والإحتلال بتحريك ثورة ضد السلطة الفلسطينية والإحتلال الإسرائيلي، وتصبح طاقة الشباب محصورة في تأمين الراتب ولقمة العيش.
عن أوسلو التي ترعى الإعتقالات والاغتيالات
بقراءة سريعة لما تم نشره من بنود اتفاقية أوسلو نلحظ أنها لم تنص على وقف أي من العمليات العسكرية "الإسرائيلية" ضد الفلسطينيين وخاصة المقاومين منهم ومن لهم علاقة بالمقاومة، لم ترد أي بنود في الإتفاقية تتحدث عن وقف الإجراءات القمعية المتمثلة في الإعتقال وهدم البيوت ومصادرة الأراضي والحصار كونه وسيلة من وسائل العقاب الجماعي. استمرت ولا زالت "اسرائيل" تقوم بتلك الإجراءات على قدم وساق وبتنسيق أمني مسبق مع السلطة الفلسطينية في بعض الأحيان كما هو حاصل في موضوع تصفية المقاومين في المخيمات.
اغتيال القادة أمثال رائد الكرمي، أحمد ياسين، وفتحي الشقاقي، وأبو علي مصطفى أبرز ما يمكن طرحه حول فكرة أن اتفاقية أوسلو ترعى الإغتيالات وترعى فكرة اغتيال المقاومة المسلحة. على سبيل المثال حسب نعيم الأشهب في دراسته "بعض أوجه التمايز بين الانتفاضتين" يقول بأن "اسرائيل" لم تكن تستخدم طائرات الاف 16 المدافع إبان الإحتلال المباشر للضفة الغربية وقطاع غزة على اعتبار أنهم تحت احتلال وبإمكان القوات غير القتالية أن تقوم بالمهم الأمنية المطلوبة، لكن بعد قدوم السلطة أخذت تستعمل المعدات الثقيلة مبررة ذلك بأنها تواجه أناساً في كيان فلسطيني لم يعد خاضعاً للإحتلال، قبل وجود السلطة الفلسطينية كان المبرر الإسرائيلي بأن الناس في متناول يدها، أما الآن وبعد أن أصبح لديهم سلطة تشرف على القضايا الأمنية في بعض المناطق، فإن هناك ما يستدعي استخدامها الأسلحة الثقيلة.
الجهاد الإسلامي وحماس في مرمى نيران أوسلو
بلغت العمليات الاستشهادية ذروتها في العام 1996 عندما برز يحيى عياش كمصنّع للمواد المتفجرة وقادر على تجهيز الاستشهاديين. بدأت المعركة تأخذ منحى آخر لم تكن تراه "إسرائيل" في أسوأ أيامها مما وضعها أمام اختبار صعب. حسب أحمد محمود القاسم في كتابه "انتفاضة الأقصى واحتمالات المستقبل" يقول: "وكما ھو متوقع، أخذت الضغوط على السلطة الفلسطينية تزداد حدة وكثافة من قبل العديد من الدول وبالذات من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل. كان المطلوب من السلطة القيام بحملة واسعة من أجل القضاء على تنظيمي حماس والجهاد وذلك بالاعتقالات المكثفة وتدمير بناھما التحتية وحيث أن السلطة الفلسطينية تعتمد بصورة أساسية على أموال الدول المانحة بقيادة الولايات المتحدة لتسيير أعمالها وصرف الرواتب، فلم يكن لديها إلا الاستجابة للضغوط".
يضيف القاسم: "من الناحية المبدئية، السلطة أقدمت على التفاوض والاتفاق مع إسرائيل بوعي مسبق بأن هناك متطلبات أمنية إسرائيلية لا مفر من الاستجابة لها إذا كان للتفاوض أن يستمر، أو إذا كان للسلطة ذاتها أن تستمر؛ ومن الناحية المالية، عملت الدول المعنية على ربط السلطة بالأموال حتى لا يكون لديها مجال للمناورة أو الالتفاف على ما تعهدت به".
ولهذا قامت السلطة بعدد من الإجراءات في مواجهة حركتي الجهاد الإسلامي وحماس، كان من ضمنها حسب ابراهيم أبراش في كتابه "فلسطين في عالم متغير": "اعتقال قيادات وأفراد، والتضييق على المؤسسات الخاصة بهما، وملاحقة الأموال. اعتقلت السلطة المئات وأودعتهم في السجون التي كانت تؤويهم في عهد الإحتلال المباشر، وكان من ضمنهم قيادات مثل محمود الزهار وعبد العزيز الرنتيسي. زجتهم بالسجون بدون تهم واضحة وبدون محاكمات، وحتى بدون معرفة المدة التي سيقضيها المعتقل في السجن".
يكمل أبراش "من هؤلاء من تم تعذيبه على أيدي الأجهزة الأمنية التي اعتقلتهم..... زادت الأمور سوءا مع دعوة الولايات المتحدة إلى عقد مؤتمر دولي في شرم الشيخ لمقاومة الإرهاب. عقد ھذا المؤتمر عام 1996 على أرض عربية وبحضور عدد من الدول العربية والسلطة الفلسطينية.."، وفي هذا السياق يقول عزمي بشارة بأن المجتمعين قرروا القيام بخطوات عملية وواضحة ضد "الإرهاب" والإرهابيين، بحسب تعبيرهم، بخاصة من حركتي الجهاد الإسلامي وحماس، وتكثيف التعاون الدولي ضد الذين يعرقلون المسيرة السلمية فيما يسمى في الشرق الأوسط". ويكمل أبراش بأنه طلب من السلطة الفلسطينية أن تضرب الحركتين بقوة وأن تدمر بناھما التحتية بما في ذلك المؤسسات الخدمية التي تقدم خدمات إنسانية وتعليمية للمواطنين. واتفق المجتمعون على ما أسموه بتجفيف المنابع المالية للحركتين، وملاحقة أموال الذين ُيشك بأنهم ينتمون إليھما.
هل انتصرت أوسلو على وجداننا ومقاومتنا أم مقاومتنا التي انتصرت عليها ؟ سؤال برسم الإجابة بعيداً عن عالم الأكاديميا وتعقيداته ونظرياته ... ناجي العلي قبل اغتياله ترك إجابة ربما تكون قادرة على طرق جدران غسان كنفاني مرة أخرى. “يقولون أن علينا أن نغلق ملف القضية الفلسطينية، وأن نحلّها كما يريدون لنا أن نحلها، وأقول لهم: إن كنتم تعبتم ففارقونا”― ناجي العلي
----------------------------------------
عن المخيمات
بعد توقيع اتفاق أوسلو سنة 1993 أصبحت الضفة الغربية مقسمة إلى ثلاث مناطق: أ، ب، ج، والاتفاقات اللاحقة ذات الصلة قسمت أجزاء من الضفة الغربية، بما في ذلك مخيمات اللاجئين، إلى ثلاث مناطق مختلفة من حيث نوع السلطة التي تخضع لها. مخيم شعفاط يقع داخل "الحدود البلدية" للقدس تحت السيطرة الإسرائيلية. مخيم قلنديا وقع ضمن "المنطقة ج"، وبقي تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة. أما المخيمات الستة الأخرى: دير عمار، الجلزون، الفوار، العروب، الفارعة، ونور شمس، فوقعت في المنطقة ب، أي تحت السيطرة الفلسطينية ـ الإسرائيلية المشتركة. أما المخيمات الأحد عشرة الباقية، والتي تقع في المنطقة أ ، فإنها تخضع لسيطرة السلطة الفلسطينية.
ويقيم في الضفة الغربية حوالي 771 ألف لاجئ مسجل لدى «الأونروا»، إلى جانب 249 ألفا من اللاجئين غير المسجلين و/أو المهجرين داخليا. وحوالى ربع عدد اللاجئين المسجلين في يعيشون تسعة عشر مخيما، والأغلبية الباقية موزعة في مدن الضفة الغربية وقراها. جغرافياً تقع بعض المخيمات بالقرب من المدن الرئيسية، وأخرى تقع في المناطق الريفية.