في معزل عن قصص الثورة والحرب والرصاص الذي يختزل رائحة البارود، في ظل التاريخ على الهامش تبقى الحقائق طي كل شيء، إلا أنها لحظة بين اقتلاع الحجر من مكانه والشكل الجديد للجغرافيا، المتشكلة بعد عملية الاقتلاع هذه التي لم تتم في الارض بل في الذاكرة .فهذه الذاكرة التي تنقلني من مكاني الى فلسطين الواحدة لأعيد تريب سطر من سطور الروايات الكثيرة المهشمة في وعينا مع سبق الاصرار والترصد الممارس علينا يوميا من قلوب القادة النابضة ببكاء كاذب. والوحل الذي نغوص فيه اكثر بسبب تلك الفكرة المسماة "شطري الوطن" نعم اكتب عن غزة والضفة والقصص التي تكتب بالدم والتي لا تكتب وقصص تخط بحبر ما.
لكن ليس كلّ ما يكتب كلمات بلا وجع وبلا مرارة، فهناك ما يكتب بالدم وهناك ما يكتب بالحبر، وهناك ما لا يكتب. نقّل ناظرك حيث الأماكن العتيقة والسراديب الضيقة حيث النخيل وحيث تختفي القصص حينما تتعمد بالدم فتصبح الحكايات عصية على الكتابة تماماً كما أنها عصية على النسيان في ذواتنا، ذواتنا الحرة التي ترفض أن تتنصل من بريق السيف كلما استل من غمده وكلما عاد إلى الغمد بعد معارك الانتصار، حكاياتنا المقدسة المبهرجة التي تحمل في ثنياها وجع ذلك البيت:
أُقْتُلُوني يا ثقاتـــي إنّ في قتـْلي حياتــــي. ومماتـي في حياتـي و حياتي في مماتـي.
في زمننا لا يُصلب المرءُ ولا تُقطّع أطرافه من خلاف، بل إنه يُصلب صلباً معنوياً بين ما يدركه وما لا يدركه وبين ما يتساءل عنه، وبين ما يحب وما يكره. حتى في يومنا العادي لا ننفك أن نمزق الغائر فينا ولا نتعرف على أنفسنا، بل نجلد ذاتنا فما علينا سوى أن نستل القصص البسيطة المكتوبة بالدم والقصص التي لم تكتب ولننطلق إلى الارض ونتصالح معها علها تعطينا من يكمل قصصنا كي نبقى بسجية لا تجعل الكل يطمع فينا.
بداية ما سيروى قصة لم تكتب عن زياد الحسيني القائد العام لقوات التحرير الشعبية (وهي قوات المقاومة الشعبية التي تشكلت عام 1968 في قطاع غزة والضفة العربية وكانت تابعة لجيش التحرير الفلسطيني الذراع العسكري لمنظمة التحرير واعتمدت على تنفيذ عمليات فدائية ضد العدو الصهيوني) الذي يقول في وصيته: ولذلك فإنني أحب الموت لكي توهب لي الحياة.
إغتيل زياد الحسيني عام 1971 وكان حينها قائد قوات عين جالوت (قوات التحرير الشعبية في منطقة الجنوب) - ودونت الحادثة على أنها حادثة انتحار لقائد فقد صوابه بعد أن تمّ حصاره، لتكون الحكاية وكأنها سطرٌ في حكايا الجنون الملازم لكل من يقف عائقاً في وجه العدو.حادثة انتحار وطويت الصفحة الا ان اصابع الاتهام وجهت في هذه الحادثة إلى رئيس بلدية غزة في حينها رشاد الشوا لان زياد الحسيني توفي في منزله.
[caption id="attachment_28081" align="aligncenter" width="230"] زياد الحسيني[/caption]كان زياد قد لجأ الى رشاد الشوا بعد ان تمكنت القوات الصهيونية من تنفيذ عمليات اغتيالات واسعة في صفوف قوات عين جالوت، ومكث في تسوية بيت رشاد ما يقارب 40 يوما حتى تلقى الجميع خبر انتحاره الاغرب. فالمعروف عن زياد انه كان صلب قوي وحكيم وان خبر انتحاره كان مدويا،خاصة وان العديد من اقرباء زياد والمقربين منه اكدوا ان زياد تعرض للتعذيب والضرب وذكرت والدته واخته انهما رأتا علامات الضرب والتعذيب على جثته ،كما ان حادثة الانتحار المزعومة كانت تؤكد ان العيار الناري اطلق من مسافة الصفر من الجهة اليمنى للرأس مع العلم ان زياد كان أشولاً، فكيف يمكن أن يطلق الرصاصة من اليمين؟)، كيف يعقل أن لا تكون حادثة اغتيال وهو قائد لقوات قتلت العشرات من جنود الصهيانة خلال فترة 65 شهرا تصيد خلالها زياد ورفاقه الجنود تصيداً في عمليات اشتباك وتنكر وكمائن أرهبت الصهاينة، فتنفس موشيه ديان الصعداء حينما استشهد زياد وطويت الصفحة التي امتدت من (1966 _1971).
ما أغرب الحكايات فغزة في عام 2013 كانت على موعد مع حكاية قائد الوحدة الصاروخية لسرايا القدس رائد جندية الذي قتل بدم بارد لتتحول الحكاية لحادثة ثأر خائبة ... ما لا يكتب في مدننا هو ما يدرس في مدن اخرى زوروا طهران لتروا الفرق بين أحلامنا وأحلامهم، وان كانت طهران تسبب الغصة لبعضكم فلتذهبوا الى الصين او اليابان ولتتعلموا قليلا.
في قصة أخرى كتبت بالدم في الكلمات اختصرت الحلاج بقصد أو عن غير قصد: عندما تبدأ بنادقنا بالعزف... فأن الحق يتكلم والظالم يتألم و الحور تنادينا
ومن على جدار قديم في البلد القديمة تسطع وصية فادي قفيشة قائد مجموعات فرسان الليل هذه الحكاية للصبي اليتيم المناضل الذي سرعان ما تصالح مع موته منذ صغره وراح يرشق الحجارة ثم استبدل الحجارة بالبندقية والعبوات الناسفة ففقد يده وخف سمعه وتضرر نظره وبقيت فلسطين وطنه الذي سيموت من اجله ،وفي عام 2004 استشهد فادي قفيشة وكان في موته حياة ، اتعلمت ان تتحسس وجع البلدة القديمة في نابلس على فرسان الليل يوما ما ، بدت كئيبة في تلك الايام لن تمر من البلد القديمة لسنوات طويلة والا وصوت تلك النغمات تصدح من اله التسجيل القديمة (زلزليهم واحرقيهم يا فرسان الليل)،المدينة تكتب حكاية فادي بدمه بوجعها الموصول بتكرار سريع وملزم للحكاية كي يعود فادي .وسيعود فادي بصورة جديدة يوما ما ليعيد لنابلس بهاء برونق قدمها وستراها تختال تماما كما سترى غزة تصفق بحرارة لزياد اخر يصالح بحرها ببرها والمرفأ يكتب قصص البطولة القادمة من وجع الوطن وفكرة الارض المعمدة بالدم.
أما في القصص التي تكتب بالحبر ليس عليك سوى أن تذهب إلى رفّ الكتب وبرفق تبحث بين الكتب في دواوين الشعر وكتب النثر تلك أو انظر إلى أسوار المدن الخضراء وساحاتها وعلى قصور ثقافتها ومسارحها ومعاهد الموسيقى والفن فيها، سترى كيف يكتب الهم والألم والوجع بحبر لا يحمل سوى قطرة حنان زائفة لا يشبه سوى أبشع دراما تعرض. ابحث أنت، لن تعلمك الجامعة والكتب وقنوات الأخبار أن تبحث عن نفسك في أكوام قصص البسطاء أو تكايا مخيم ما أو في بيوت أسر الأبطال، بل ستأخذك إلى حيث يجتمع الكل في قاعات كبيرة يتحدثون العربية والانجليزية بطلاقة ويصفقون بحسب أصول معينة ستأخذك الى حيث ان التصفير يصبح صبيانية غير لائقة الى حيث تصبح المثقف المتعلم والمنظر والاكاديمي الابرع لكنك لن تكون انت الفلسطيني العربي الذي يرفض ان يصبح المقاوم فيها قاتلاً أو بلغة اليوم "أزعراً".